هانيبال ليكتر بين الأدب والسينما والتلفاز!
في عالم الفن، دائمًا ما تكون هناك متناقضات كثيرة، وبالطبع ذلك يرجع لتشابه الأصول.
الدكتور هانيبال ليكتر ليس مجرد طبيب، بل أيضًا آكل لحوم بشر، ومجرم لا يستهان به على الإطلاق. من الخارج يبدو كسياسي مُحنَّك، لكن من الداخل هو وحش كاسر يمكن أن يفتك بفريسته بينما الألحان الكلاسيكية تصدح في الخلفية. تم تقديم الشخصية لأول مرة على يد الروائي الأمريكي توماس هارس، في روايته الشهيرة: Red Dragon، والتي صدرت عام 1981 لتهزّ العالم كله.
بعدها توالت الأجزاء، ومعها تأرجح القرّاء بين أروقة البنايات والكنائس والأضرحة والقصور، وأيضًا المكاتب المغلقة، بينما كل شيء مصبوغ بالأحمر القاني. وجدنا في تلك الروايات هانيبال ليكتر هو الثابت، بينما الشخصيات من حوله كلها تتغير باستمرار. ومع تلك الشهرة المهولة، كان تحويله إلى شخصية سينمائية أمرًا متوقعًا، وبعدها تم تحويله إلى شخصية تلفزيونية.
الفيلم السينمائي كان بعنوان The Silence of the Lambs، ويدور حول حكاية الدكتور هانيبال مع كلاريس، المحققة الشابة التي تريد الإيقاع بمجرم عتيّ، وتحتاج إلى عقل إجرامي مثل عقل هانيبال؛ ليساعدها. وكان الفيلم الأول في سلسلة الأفلام التي ثبت فيها هوبكنز على شخصية هانيبال، بينما تغيرت الوجوه السينمائية لكلاريس مع الوقت. بينما المسلسل التلفزيوني كان بعنوان Hannibal فقط، لكن هذه المرة قصته مأخوذة حصرًا من الرواية الأولى فقط، ويدور حول حكاية هانيبال مع المحقق ويل جراهام، ذلك المحقق الذي يعاني من عقلية مضطربة، لكن متقدة حتى النخاع.
كيف تم تجسيد هانيبال في كل تلك الألوان الفنية؟ ما سر الكاريزما الطاغية لأنتوني هوبكنز في الفيلم؟ ولماذا ثبات مادس ميكلسن لا يُنسى في المسلسل؟ وكيف صار الأدب هو حلقة الوصل بين العالمين؟ كلها أسئلة سنجيب عنها اليوم. ولذلك سيتم تقسيم المقال إلى ثلاثة أجزاء: هانيبال بالنسبة إلى الفيلم، ثم بالنسبة إلى المسلسل، وأخيرًا بالنسبة إلى الروايات.
هانيبال في الفيلم
عند الحديث عن هانيبال ليكتر في الفيلم، يجب الحديث عن الأداء العبقري للسير أنتوني هوبكنز. دائمًا ما يختار هوبكنز الأدوار التي تتسم بالثبات الانفعالي الطاغي، حتى يستطيع بسط تعابير وجهه أمام الكاميرا، محتلًا الكادر تمامًا. أدواره مُنتقاة بطريقة يكون فيها هو محور الأحداث، ويكون المخرج مجبرًا جعل الكاميرا مسلطة على وجهه في لقطات تكون أغلبها قريبة من عينيه للغاية. الألاعيب الذهنية التي يدشّنها هوبكنز على الجمهور من خلال عينيه كترسانة أسلحة؛ تأثيرها قاتل بدون شك.
في الفيلم، كانت كل كلمة موزونة، مضبوطة، ومنطوقة في الوقت المناسب. في أحد اللقاءات قال هوبكنز إنه يقرأ النصّ أكثر من مرة حتى يصل إلى مرحلة يكون فيها النص هو الخارج على لسانه من تلقاء نفسه، دون الحاجة إلى تذكره على الإطلاق.
حيث قال نصًا: “دعه يُنطق من خلالك – Let is play through you”. تلك التلقائية الشديدة هي التي تجعل له ثقلًا أمام الكاميرا؛ لا يستهان به أبدًا. وبذلك كان النصّ المنمق، بجانب الأدب الرصين، هما الخالقان لمشاهد قصيرة للغاية، لكن تعلق في الأذهان والقلوب أبد الدهر.
في هذا الفيلم لم يظهر البطل لمدة طويلة، ربما 15 دقيقة أو ما شابه، ومع ذلك حصل على الأوسكار. بل وعندما يأتي ذكر الفيلم في أي مَحفل فني، تتجلى صورة هوبكنز في الأذهان مباشرة. استطاع الممثل تجسيد شخصية الطبيب صاحب الغرور الذي لا يعرف حدودًا، لكن في نفس الوقت لا يمكنه إظهار ذلك الغرور بشكلٍ مباشر كي لا يبدو في حاجة إلى الثناء. هانيبال شخصية مركبة استطاع ممثلنا البارع فعلًا أن يعتصرها فعلًا بداخله، وبذلك قدم وجبة درامية دسمة جدًا، في دقائق معدودة.
كما أن هانيبال لم يكن مجرد تعبيرات وجه وعيون وكلمات موزونة مع فواصل صوتية مرعبة؛ لا. هانيبال أيضًا كان لغة جسد تنم عن العراقة الفنية الأصيلة، والتي نادرًا ما نراها في هذا الزمن المشحون بالأحداث المتسارعة والتي تدفع المرء للهاث المستمر. حركته في الأماكن المغلقة، ثني ذراعيه خلف ظهره، وأيضًا وقوفه مع فواصل الكلام؛ كلها فنيّات صغيرة تجعل منه كتلة من الكاريزما المتحركة في المشهد. كل تلك العناصر البصرية والصوتية مجتمعة، تخلق لك صورة الشخصية التي لا يمكن نسيانها أبدًا. وبالفعل، لا يمكن لأحد قد شاهد أداء هوبكنز في الفيلم؛ أن ينساه، أو حتى تطغى عليه أداءات أخرى.
هانيبال في المسلسل
هنا الأمر مختلف تمامًا. إذا شاهدت الفيلم في البداية، ستعتقد أن هانيبال يجب أن يظهر في هيئة الطبيب الذي تبدو بواطنه على وجهه. حيث عمل الفيلم على تهيئة كل الظروف الممكنة لإقناع المشاهد بكَون هانيبال هو الشخصية الشريرة، حتى أنه أيضًا قام الإنتاج بطلب ارتداء عدسات لاصقة مصبوغة باللون الأحمر من قبل البطل، لإظهار أن الشخصية متعطشة للدماء حتى وهي في الحبس.
لكن من الناحية الأخرى، هانيبال في المسلسل هو فعلًا طبيب راقي للغاية، وله عيادة شهيرة، مليئة بالأثاث المنتقى بعناية. لا تظهر عليه أبدًا أمارات الشر أو أكل لحوم البشر بأي حال من الأحوال. من الخارج هادئ كالحمل، ومن الداخل ثائر كالأسد.
كما أن السيناريو الخاص بالمسلسل عمل على جعل شخصية هانيبال غامضة الدوافع والهوية في الحلقات الأولى، حيث سلطت الضوء على ويل جراهام أكثر منه. فبالتالي تم وضع هانيبال في الظلال لفترة طويلة، حتى ظهر لاحقًا كونه هو الشرير المسؤول عن الكثير من الجرائم التي ظهرت بالمسلسل.
اعتمد مادس ميكلسن على تقديم الشخصية بأسلوب لا يمكن أبدًا أن تفهم منه نواياه الدفينة. فعلى عكس هوبكينز، قرر مادس كتم وحبس كل المآرب بداخله، بينما من الخارج ظهر رزينًا تمامًا، بل وودودًا بدرجة مهولة. فإذا أردنا إيضاح الفرق الفعلي بين الفيلم والمسلسل، فببساطة الفيلم (أو سلسلة الأفلام) جعل الأجواء كلها ممهدة للإيحاء بشرّ البطل. بينما المسلسل جعل الأجواء كلها ضبابية، حتى أجبرك على الهيام عشقًا بالشرير بعد أن اكتشفت حقيقته لاحقًا.
هانيبال في الأدب
هنا نحن أمام الفيصل بدون شك، الأدب هو سيد القضية دائمًا.
لكن مهلًا، هنا لن نحرق الأحداث، ولن نقول الأوصاف التي صاغها توماس هاريس لشخصيته السيكوباتية الأثيرة. بل سنسلط الضوء سويًّا على التأثير التخيلي للأدب في صناعة الشخصيات، بغض النظر عن المعالجات السينمائية أو التلفزيونية لها.
استطاع هاريس أن يصنع بورتريه كامل للشخصية بأسلوبه السردي، لكنه أيضًا عمل على صنع بورتريه مختلف في مخيلة كل قارئ. فإذا قال مثلًا أي كاتب، واصفًا أي شخصية: “أنفه مدبب”؛ ستكون الهيئة التخيلية مختلفة من لشخص لشخص.
ذلك الوصف مبهم، وهذا الإبهام هو الذي سهل صنع أكثر من نسخة لنفس الشخصية، باختلاف الآلية التخيلية لدى القرّاء. فالأنف المدبب قد يكون قصيرًا أو طويلًا، مستقيمًا أو معقوفًا، وأي صفات أخرى قد تتخيلها. ذلك الاختلاف المهول في الهيئة الجسدية للشخصية لدى القرّاء، جعل التجربة الأدبية هي الأفضل بالطبع.
وفي الواقع، اعتمد صنّاع الأفلام والمسلسل على هذه النقطة جدًا، واستغلوها لصالحهم. حيث قرروا أن يصنعوا نسخة نهائية وواضحة من الشخصية، وفي الغالب وجد القرّاء أنها مختلفة عمّا تخيلوه أثناء صناعة بورتريه الشخصية في أذهانهم. ذلك الاختلاف عمل على تعليق القرّاء بالشخصية ذات الأبعاد الجديدة، في محاولة منهم لاكتشاف هذا الزائر الغامض الذين يرونه لأول مرة على الشاشة.
هانيبال فعلًا شخصية لا تُنسى، ومهما اختلفت المعالجات الفنية لها، ستظل واحدة من أبرز الشخصيات السيكوباتية في تاريخ الفنّ حصرًا.
هل شاهدت الفيلم أو المسلسل؟ أو قرأت الروايات؟ شاركنا رأيك في التعليقات إذًا!