نداء للجيش الوطني لإنقاذ الغابات
سالم العوكلي
أذكرُ في العام 1987 أنْ وصلني تكليف بالإشراف على استصلاح أراض غرب منطقة رأس الهلال، وحين ذهبت لاستطلاع الأمر فوجئت بصف من الجرافات تُكشر عن أنيابها أمام غابة عرعر كثيفة قرب الشاطئ، فأمرتهم بالتوقف وحررت مذكرة (مازالت نسخة منها لدي) أقول فيها إن الذي يجري جريمة بيئية ولا علاقة له بالاستصلاح أو الإصلاح ويجب سحب الجرافات فورا. وكل ما حصل أن أُعفيت من المهمة، وكُلف غيري، ونفذ المهمة التي أفضت إلى اقتلاع آلاف الأشجار من غابة العرعر الطبيعية. كان الإجراء يتم في إطار التجهيز لمشروع تربية 100 ألف رأس من البقر، وهو مشروع دعائي مستحيل منطقيا في منطقة لا تكاد مياهها العذبة تكفي سكان الجبل من البشر، لكنه كان ذريعة لجرف آلاف الهكتارات من الغابة. عاش الطاغية في ظل (فوبيا الأشجار والغابات) ما جعله يأمر باقتلاع كل الأشجار على جانبي طريق مطار طرابلس الدولي وعلى جانبي كل طريق متوقع أن يسير فيه موكبه. لم يكن يرى أشجارا لكنه كان يرى قناصا مختبئا في كل شجرة، وبعد أحداث التسعينيات واختباء الجماعات المسلحة في غابات الجبل أُشعِلت حرائق ممنهجة كل خريف، وأزيلت غابات كثيرة على الساحل في ظل مشروع تحصين الساحل والخوف من الإنزال . ذهب الطاغية بفوبياه، لكن الجرافات المسروقة من مخازن الشركات الأجنبية التي انسحبت بعد الأحداث تهدر في كل مكان وتحت فوبيا اجتماعية جديدة تتعلق بإحساس الناس بضيق الأرض، هذا الضيق الذي جعل القمامة تتراكم على جوانب الطرق مع قفل كل المكبات ولم تعد الدولة تملك سوى هذا المتر على جانب الإسفلت لترمي فيه نفاياتنا.
نشرت من فترة تدوينة على صفحتي أطالب فيها الجيش الوطني أن يقصف كل جرافة تلتهم الغابة كموقع إرهابي، ومازال الأمر ملحا لأجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الغطاء الخضري في هذه الأرض التي يتهددها التصحر بفعل الظروف الطبيعية ويزيدها البشر في هذه الفترة دعما وتحفيزا.
أخفقتْ كل المشاريع التي طرحها خبراء منذ نشأة الدولة الليبية في وقف زحف التصحر في اتجاه الأراضي الزراعية في الشمال، بل وصل الخطاب في فترة ما لحد التغزل في الصحراء كهوية ليبية وكمكان قادم منه الحاكم الأوحد الذي سمى نفسه رسول الصحراء، وفعلا كان رسولها المخلص الذي جعلها تجتاح، ليس الغطاء الخضري الطبيعي فقط، لكن العقول أيضا التي تربت في ظل منظومته التعليمية التي تعمل بمثابرة على نشر الجهل بين من يتعلمون، ومنظومته الإعلامية التي كانت تضخ طيلة النهار والليل خطابها المنقسم بين تمجيد الطاغية وتسفيه كل ما عداه، ومنظومته التعبوية التي كانت تحشر الأطفال والصبية في دوائر من غسل الدماغ تحت تسميات أشبال وبراعم وسواعد الفاتح أو داخل المثابات الثورة والدورات العقائدية التي تشبه تلك السياسة التي قادها الخمير الحمر في فيتنام الشيوعية، حين كان مطلوبا من الأطفال الذين لا يحصلون على قوت يومهم أن يكونوا مبشرين بأيديولوجيا تنقذ العالم برمته، وأن يتحرروا من سلطة الآباء ومن عبء الرأي الآخر أو التفكير في المستقبل مادام هناك قائد ملهم يفكر بالنيابة عن الجميع ويحلم عوضا عنهم.
هؤلاء الذين يفتكون بالأشجار والغابات في كل مكان من ربوع ليبيا، وفي الجبل الأخضر خاصة، هم نتاج تلك التربية الجماهيرية التي بدأت بالتغزل في الصحراء وانتهت بفوبيا الأشجار على كل ضفاف الطرقات التي غدت مكبات للقمامة.
حين كنت الفترة الماضية في قريتي القيقب التي زرعت فيها فترة الستينيات غابات كثيفة من الصنوبر الذي منح القرية جمالا خاصا والبيئة ذخيرة من الهواء المنعش، شاهدت الجريمة عن كثب، حيث اجتيحت هذه الغابة بالطوب والإسمنت واغتيلت أشجار الصنوبر الضخمة لتفتح المجال لبيوت ودكاكين متطفلة على هذه الغابات التي تربطنا بها ذكريات طويلة، عندما كنا نحتفل سنويا بعيد الشجرة ويأتي كل سنة سيدي اعلومة (الفوريستاري) ليلقي كلمته باللهجة الليبية داعيا لاحترام الشجرة وتقديسها. في تلك الفترة كان حرس الغابات يشكل سلطة مخيفة لنا تجعلنا لا نجرؤ على قطع غصن من شجرة أو إشعال نار قرب الغابة لأن لحرس الغابات عاملين كالأشباح يخرجون علينا من حيث لا نتوقع، وعادة ما يحضر أحدهم على صهوة حصانه بمجرد أن يرى لسان دخان يصعد من الغابة.
غابة القيقب مجرد مثال على ما يحصل في ربوع الوطن من انتهاك سافر للغابات والأشجار، فأكياس حطب جذور البطوم الأخضر تملأ ضاف الطرق جراء ما يحدث من جرف لألوف الهكتارات من هذه الغابة التي يزيد عمرها عن ألف سنة، والمفاحم تقام في كل مكان، والإسمنت يجتاح أراضي تملكها الدولة ومحمية بقوانين قديمة باعتبارها أرض غابات، أو أراضي محمية بقانون حماية الأراضي الزراعية.
وفي غياب المسؤولية والسلطات الليبية المعنية بهذا الأمر الخطير، ولأن الأمر عاجل ولا يحتمل انتظار قيام الدولة ومؤسساتها المعنية بالأمر مباشرة، لا حل عاجل سوى أن تقوم القوات المسلحة الليبية بدور ضمن أدوارها الوطنية في حماية الغابات والأراضي الزراعية وإزالة كل المباني أو المحاجر التي تجرأت على الغابات والأراضي الزراعية والشواطئ باعتبارها أملاكا للدولة الليبية، وهو دور لا يتناقض مع مهمة الجيش في حماية المواقع الحيوية وحماية أملاك الدولة، وحماية الوطن لأن إزالة الغابات والأشجار تهدد الأمن القومي إذا ما أدركنا أن مفهوم الأمن يتسع ليشمل الأمن البيئي والغذائي والصحي.
دعوة من جديد لتدخل قواتنا المسلحة التي شاء القدر أن تتحمل كل هذه الأعباء، وأن تسلم بعد الإزالة ومحاسبة المعتدين وفق القانون مسؤولية الحماية للشرطة الزراعية التي من المفترض أن تكون إحدى مكونات الغرف الأمنية، مثلما سلمت المدن التي حررتها من الجماعات الإرهابية للمؤسسات الأمنية المدنية.
أتوقع مستقبلا أن يتحمل كل معتد مسؤولية ما فعل عبر تحميله تكاليف التنظيف ومن ثم تحميله زراعة أشجار بديلة في الأمكنة التي تسبب في تعريتها من الأشجار، أو الخصم من مرتبه شهريا مقابل أن تقوم المؤسسة الرسمية كوزارة الزراعة، أو أي جسم حكومي مختص بالحفاظ على البيئة، بترميم ما تسبب فيه من أضرار.
إزالة الغابات والأشجار عمل إرهابي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بل إنه أشد خطرا من هذه الجماعات التي يمكن القضاء عليها وإزالتها من الوجود، أما ما تسبب فيه المجرمون من تجريف للغطاء الخضري فستطال أخطاره وأضراره الأجيال القادمة.
وأكرر: يجب ضرب أو حجز كل جرافة تقلع الأشجار مثلما يضرب أو يقصف أي موقع إرهابي. خصوصا أنه لا توجد في التشريعات الليبية منذ تأسيس الدولة الليبية أية ثغرة قانونية تبيح قلع شجرة واحدة أو استغلال أرض صالحة للزراعة للبناء عليها.