مُرهم السيادة الوطنية الأسود
سالم العوكلي
الحديث عن السيادة الوطنية، وعن عدم التدخل الخارجي، وعن نقاء العرق وصفاء الأرض من العناصر الأجنبية، وعن الوطنية التي أصبحت مرتبطة بكراهية الأجنبي، وعن الحوار الليبي الليبي، أصبح ممجوجا وممضا وداعيا للضحك، والأمر لا يتعلق بظرف حالي، أو عدم استقرار، أو صراعات محلية، لكنه يمثل أكذوبة صدقناها وتصدقها الشعوب المثيلة لنا؛ تتعلق بخلل بنيوي يجعل من هذا التبجح باستقلال القرار أو الحفاظ على السيادة مجرد نكتة سمجة، وفي أفضل الأحوال؛ وهما نرجسيا يستمد نغمه من أخيلة التاريخ، ومن رنين الهتافات، ومن شجن الأناشيد الوطنية التي تشبه ملاحم الحب العذري الذي لا يمت لطبيعة الحياة بصلة.
والسبب ودائما السبب، في كون حياتنا: حياة الفرد المفرد، وحياة الأمة المؤممة، منتهكة من الأساس، والحجة المواتية: إذا كنا لا نملك السيادة على حياتنا المعتمدة على ما يأتي من خلف الحدود كيف يمكننا أن نتحدث عن سيادة جغرافيا أو عن استقلالية وطن؟!. وبمعنى آخر، كيف لشعب لا يملك قوت يومه أن يتحدث عن هذه الأوهام الكبرى؟ وحقا نحن لا نملك قوت يومنا، أو لا إمكانية أن يكون لنا قوت يوم دون هذا الخارج الذي نعتبره الشيطان الرجيم، ولا نجد ما نطعم به أولادنا من هذا الداخل الذي نعتبره حريتنا واستقلالنا وكرامتنا.
الدقيق والطحين والأرز يأتينا من الخارج وكل ما تزخر به أسواقنا من الغذاء، والأدوية والملابس وحليب الأطفال ولقاحاتهم، ووسائل مواصلاتنا، وملابسنا الخارجية والداخلية، والورق الذي نكتب عليه قراراتنا (السيادية) وقوانيننا، وعملتنا، وجوازات سفرنا نطبعها في الخارج. ولا يمكن لهذه الأمة (المستقلة العظمى) أن تعجن رغيف خبز واحد دون هذا الخارج ودون الموانئ التي تستقبل كل ما يحافظ على استمرار حياتنا بيولوجيًّا . حتى خيالاتنا وعالمنا الافتراضي ومصادر أخبارنا وأسرارنا لا نعرفها إلا عن طريق هذا الخارج.
ننتظر مبعوثا تلو مبعوث من المجتمع الدولي كي يحل مشاكلنا ويعجز عن أن يجمع أطرافنا السياسية في قاعة واحدة لكي يتحاوروا، والسبب أن كلا من هذه الأطراف (التي طوال الوقت تتحدث عن السيادة الوطنية) تنتظر ما يأتيها من ذاك الخارج من أوامر وتعليمات كي تصافح بعضها بعضا، وكي تقول أو توافق على ما يخص المواطن الليبي، المواطن الليبي الذي ما عاد يهمه سوى رغيف الخبز الذي كل مكوناته تأتي من الخارج، ولا يتحدث سوى عن الكهرباء التي كل معداتها تأتي من الخارج، والذي لو توقف استيراد المضخات من الخارج لمات من العطش. ذلك الخارج الذي يحلم كل مريض أن يذهب إليه كي يعالج وأن تستمر حياته.
لم تتمتع ليبيا في تاريخها بما يسمى بالسيادة الوطنية، وكانت نهبا لكل الأمم المستقرة أو العابرة، وكانت دائما أقاليمها تحت وصاية قوى خارجية، وحتى عندما أعلن استقلالها اضطرت إلى تأجير قطع من أرضها لقواعد أجنبية من أجل أن تحصل على رغيف خبزها، ومن أجل أن تعالج قومها من الجرب والرمد والسل وسوء التغذية.
وحدث أن اكتشِف مخزون نفطي في هذه الأرض القاحلة، وراود نرجسييها العظام فرصة أن تحظى هذه البقعة بالسيادة لأول مرة في تاريخها، وكان الزفت أول مرهم أسود نتعاطاه لعلاج دُمّل التبعية، لكن اكتشاف واستخراج وإدارة وتسويق هذه اللقية كانت تتم عبر الخارج، وتحولنا إلى مجرد حراس لآباره وحقوله، وخلال عقود مرت تحول هذا الكنز إلى مفهوم ملتبس للسيادة غير أنه لم يتحول أبدا إلى جوهر حقيقي لمفهوم الكرامة، تحول إلى خدمات سيئة، وترسانة أسلحة، ومرتبات شحيحة تتقاضاها الرعية كل آخر شهر، وأحيانا كل آخر سنة، بالكاد يسد الرمق، وبالكاد يكفي لتوفير رغيف الخبز الذي ظل يُزرع ويُحصد ويطحن ويُعجن عبر هذا الخارج، وحين تتأخر باخرة الطحين عن الميناء نرى الطوابير الطويلة أمام المخابز، ونرى بوادر جوع تلمع في عيون الجميع، وحين يتأخر استيراد حليب الأطفال نرى الموت يترصد أطفالنا رغم أثداء نسائنا الضخمة.
حدث أن دعا شيخ في خطبة جمعة على هذا الخارج بحرق زرعه وجفاف ضرعه وحين خرج من المسجد قال له مواطن حائر: يا شيخ هل تريد أن تقتلنا من الجوع، فخبزنا وحليبنا يأتي من هؤلاء الذين تدعو عليهم بالحرق والجفاف.
تحول النفط إلى مفهوم غائم للسيادة طالما أنعم علينا بعدم حاجتنا لتأجير الأرض لقواعد أجنبية، وطالما أصبح بإمكاننا أن نشتري به بدل أن نتسول أو نتلقى الإعانات، لكن في الوقت نفسه حلت الشركات النفطية الكبرى محل القواعد (ولعل الصراع بين شركة إيني الإيطالية وشركة توتال الفرنسية الذي يتبعه صراع محلي يؤكد ذلك)، وتحول هذا الزفت إلى لعنة عاثت خرابا في بنية المجتمع ووفرت تربة خصبة للفساد وللنزاعات الأهلية ولدعاة تقسيم البلد، وكعائلة عثرت فجأة على كنز تحت بيتها وتقاتل أفرادها عليه أو تخلوا عن أعمالهم كي يعتاشوا منه حتى ينضب. فلو حدث أن نضب هذه الوقود المؤقت للسيادة الغائمة وسيحدث هذا، حينها ماذا سنفعل بعد أن تحولت ليبيا إلى مؤسسة كبرى للضمان الاجتماعي تستورد حتى الأكسجين، وبعد أن ولدت أجيال في قلب الكسل وتحولت إلى طوابير أمام المصارف تنتظر قوت يومها الذي يأتي من النفط الذي يديره الخارج.
وعشنا عقودا في ظل سيادة مزعومة دون أن تكون لنا كرامة، والزعيم الأوحد الذي وضع يده على الكنز يهددنا في كل وقت بقطع المعاش أو تقليصه، ويهددنا بكون هذه الأرض التي تتمتع بالسيادة ما عادت تصلح للحياة ويغرينا بالنزوح إلى جنة إفريقيا مقابل حفنة من الدولارات، ويهددنا بقطار الموت الآتي من هذا الخارج، ويهددنا بوقف السلع الحياتية المدعومة، ويجعل من الهتافات أغنية للموت الذي على الليبيين أن يعشقوه من أجل الحفاظ على السيادة.
حياتنا ليست بأيدينا وحتى كتابة هذه السطور، وحين لا تسيطر على حياتك يصبح الحديث عن السيادة الوطنية ممجوجا وممضا وعلكة مُرة نعلكها والجوف خال. علكة النرجسية التي لا أعرف مصدرها من أي إلهام في التاريخ جاءت. النرجسية التي جعلتنا نهتف طز طز في أمريكا لسنوات ثم سلم الزعيم وهو في ذروة انحنائه (حتى لا أعبر عن المشهد المذل باللهجة الليبية الأيروتيكة) سلمهم مجانا بنية المشروع النووي التحتية التي كلفتنا عشرات المليارات عندما أرعبه مشهد القبض على كبير الطغاة صدام حسين، والنرجسية التي عطلت قطاع السياحة والاستثمار الخارجي بحجة الحفاظ على الأمن والسيادة، والنرجسية المَرَضية التي تجعل وسائل الإعلام تسمي إحدى أكبر القوى في التاريخ والعالم (روسيا) بالمرتزقة.
ولا أعرف مصدرها حين يطالب الجميع بعدم التدخل الخارجي في الشأن الليبي، والشأن الليبي لا يستطيع أن يوفر رغيف خبز واحد دون هذا التدخل الخارجي.