من كسر الخاطر يا تاورغاء ؟
طه البوسيفي
كانت لحظاتٍ امتزجت فيها كل المشاعر واختلطت فيها تناقضات الأحاسيس البشرية، بين الفرح والقلق والدموع والضحك، بين ارتفاع دقات القلب وعلوِّ صوت الزفير، بين تعرق اليدين كأنك في لقاء الحب الأول. شخصياً عشت هذه التفاصيل لأن الحدث هو عودة أهل تاورغاء إلى مستقرهم الأول الذي هجروه قسراً إلى مساكن طارئةٍ صنعت على عجلٍ فصارت مكاناً تولد فيه الذكريات من جديد والتي لم تشفع لمن قضى عمره في مزارع تاورغاء وأحيائها أن تعوضه رقرقة الماءِ وهزات خصر سعف النخيل حين يتساقط بكل حبٍ وكرامةٍ رُطَباً جنيا .
تحرك أهل تاورغاء كلٌ من مكانه والأمل يحدوهم بعد أن صدقوا ببراءة الأطفال وعود اللجنة التي أشرفت على ملف العودة الآمنة والنهائية، لكن وما إن وصلت لحظة الحقيقة وبدأت القوافل بالتحرك من المخيمات في الشرق والغرب باتجاه المكان الحلم حتى اصطدم أهل تاورغاء والليبيون وأنا والمنتج والمخرج والناس جميعاً بأننا كنا في حلمٍ وردي لا يتناسب والواقعَ المعاش بل يناقضه وعلى طول الخط وهذه مسألة لم تعد تقبل النظر بالنسبة إليّ .
صدقنا وعود الرئاسي ولهثنا كالأيائل في البراري خلف الوهم الذي خطه لنا وحين ما حصحص الحق ونادى المنادي تبين أنها وعودُ سرابٍ بل تتعدى ذلك لتكون متاجرة رخيصة بقضية إنسانية سامية رفض أهلها وما يزالون إحالتها إلى المحاكم الدولية حباً لوطن تعلقوا به كتعلق الجنين بالحبل السري الذي يربطه بوالدته .
لن أنجرف إلى وادٍ سحيقٍ لأجتر معي الماضي وما حدث قبل سبع سنوات، لأننا ما دمنا نتحدث عن مصالحة وطنية شاملة ونهائية فهذا يقتضي و يستلزم بالضرورة هدم كل شعور بنيَ على أساس أحداث الثورة وما نتج بعدها من شرخ في جدار النسيج الوطني غير المتماسك بالصورة التي نريدها لأننا اكتشفنا في هذه السنوات المرة أن خلافاتنا عميقة وأن ثاراتنا مثل حية من تحت تبن تتربص بنا، وكشجرة أصلها ثابتٌ لم يقتلع كله .
إنني أشعر بالخزي من نفسي لأن قضية تاورغاء أشعرتنا بالعجز الكامل والشلل التام عن فعل أي شيء فكبيرنا كان كتابة أسطرٍ على صفحات الفيس بوك وحروفاً أقل على تويتر جميعها لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولا تسد رمق قلوب أهالي تاورغاء وعطشهم العاطفي وحنينهم الذي لم تخبو ناره ، ولك في حماسة الرجال وزغاريد النساء ولمعة أعين الشباب خير مثال .
لا أعلم متى ستغادرني هذه المشاهد التي يبدو أنها التصقت بجدار الذاكرة ولن تمحى سريعاً مهما حاولت الفكاك منها، لكنني أشكرها لأنها كانت سبباً في إعادتي إلى الحقيقة الحنضل والواقع الخنجر الذي يقول صراحة وبدون أي مواربة أو تنميقٍ للعبارات وتلاعب بالمفردات إن القضية قضية مسلحة ولن تحل مادام السلاح متغلباً على العقل، فالعقل وحده لا يكفي لأنه يحتاج إلى عصا يضرب بها كلَّ من يحيد عن الطريق، تماماً كالديمقراطية التي ومن دون أنياب لن تعدو كونها حبراً على ورق ومثالياتٍ مفرطة لن تتحقق ولو في جمهورية أفلاطون .
عاد أهل تاورغاء مكسوري الخاطر حاملين معهم إلى مخيمات الصفيح الهشة أمام برد الشتاء وحر الصيف خيبةً جديدة تضاف إلى كم الخيبات التي تجرعوها وذاقوا مرارة كأسها سنين عدداً، عادوا إلى مخيماتهم بجرح جديد يضاف إلى الجروح الغائرة في صدروهم والتي ما تزال تنزف الحنين والحب والذاكرة .