من سايكس بيكو إلى أردوــ بوتين.
سالم العوكلي
بعد الحرب الإيطالية العثمانية وجهت إيطاليا إنذارا مدته ثلاثة أيام للعثمانيين لقبول مقترح إيطالي تحوّل إلى معاهدة وقعت في ضواحي مدينة لوزان بسويسرا سميت معاهدة أوشي العام 1912 ، تنازلت بموجبها الدولة العثمانية عن ليبيا لإيطاليا، وسحبت جميع الضباط والجنود والموظفين الأتراك من طرابلس وبرقة مقابل امتيازات في مناطق أخرى، تاركة الليبيين وحدهم في مواجهة غزو الجيوش الإيطالية كما فعلت مع مستعمرات أخرى في الهلال الخصيب تخلت عنها للمملكة المتحدة وفرنسا.
أدى تقاسم تركة الدولة العثمانية المنهزمة إلى معاهدة سرية بين فرنسا وبريطانيا، بمصادقة روسيا القيصرية ومملكة إيطاليا، تم بموجبها اقتسام الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا بعد توقيع الدبلوماسي الفرنسي فرانسو بيكو والبريطاني مارك سايكس، واشتهرت بمعاهدة سايكس بيكو التي وقعت العام 1916م . وشكلت هذه الاتفاقية صدمة للعرب، حيث، مقابل وعود بريطانيا للعرب بوطن قومي في منطقة سوريا الكبرى دَعَم العرب المملكة المتحدة في حربها ضد الدولة العثمانية، وذهب الوعد أدراج الرياح بعد اتفاقية سايكس بيكو السرية التي فُضِحت بنودها السرية بعد سيطرة البلاشفة على الحكم في روسيا، لتُنشر هذه البنود في صحيفة الجارديان، نوفمبر 1917 ، والتي وصفت نتائج هذا التسريب بهذه الجملة المختزلة : “كان البريطانيون محرجين والعرب مستائين والأتراك مسرورين” .. وعاد الاهتمام بهذه الاتفاقية في الذكرى المئوية لها قبل ثلاث سنوات باعتبارها الاتفاقية المسؤولة عن الصراعات القائمة في المنطقة الآن لأنها رسمت حدودا قسرية دون الأخذ في الاعتبار الخصائص الإثنية والطائفية في المنطقة.
بعد قرن وأمام تراجع الدور الأمريكي والأوروبي في هذه المنطقة تنتهز كل من روسيا وتركيا الفرصة لتصفية الحساب مع اتفاقية سايكس بيكو المهينة التي همشت روسيا البلشفية وحجمت نفوذ الإمبراطورية العثمانية الآفلة، ويتشكل حلف ثأري بين الأخوة الأعداء بدأ في سوريا عبر اتفاقيات حذرة بين الطرفين، ما يبرز معاهدات جديدة يمكن تسميتها معاهدات أردو بوتين على غرار سايكس بيكو، ولينتقل هذا التحالف إلى المغرب العربي عبر بطنه الرخو في ليبيا، فهذه الأطراف التي تدعم أطرافا متناحرة في ليبيا على طرفي نقيضين تلتقي مصالحهما وتنفصل مثلما كانت بين بريطانيا وفرنسا وهما يتقاسمان الجيفة التي تركتها تركيا فوق هذه الرمال.
بدأت اتفاقيات أردو بوتين بأطروحة (خفض التصعيد) في شمال سوريا الغربي عبر مؤتمر أستانا ثم سوشي، وانتقلت إلى ليبيا تحت عنوان وقف إطلاق النار في شمال غرب ليبيا عبر مؤتمر موسكو. وفي الحالات كلها لا يمكن أن يجرؤ الثعلب التركي على دخول مناطق شمال سوريا إلا بضوء أخضر، ولا مناطق شمال غرب ليبيا إلا بضوء أخضر من الدب الروسي، ويحدث هذا في غياب دور أمريكا/ترامب المشغولة بالصفقات التجارية في هذه المرحلة.
في الحالتين، سوريا وليبيا توجد نقاط تشابه يمكن تلخيصها كالتالي:
تشمل منطقة خفض التصعيد في سوريا محافظة إدلب ومناطق مختلفة في حماة وحلب واللاذقية، بينما يشمل وقف إطلاق النار في ليبيا طرابلس ومناطق أخرى في مصراتة والزاوية، بحيث إنه لا ينطبق على المعارك المستمرة غرب سرت إلا إذا اقتربت من مصراتة .
محافظة إدلب تجمعت فيها كل الجماعات المسلحة التي كانت تقاتل في جنوب وشرق سوريا، المكونة من فصائل متطرفة وبقايا من الجيش الحر وجبهة النصرة المنتمية إلى تنظيم القاعدة والتي غيرت اسمها إلى هيئة تحرير الشام بعد أن صنفت كمجموعة إرهابية، وهي الفصيل الرئيسي المتحكم في إدلب، وكلها تقع تحت تسمية تركيا لها (المعارضة) وميليشياتها تسميها الجيش الوطني السوري.
أما طرابلس ومصراتة فقد تجمعت فيها كل المجموعات المسلحة أو من نجا منهم التي كانت تقاتل في شرق وجنوب ليبيا، من جماعات متطرفة أو أذرع مسلحة لجماعة الإخوان، والجماعة الليبية المقاتلة وميليشيات مصراتة والزاوية وطرابلس ومن تنظيم أنصار الشريعة، فرع من القاعدة، والتي غيرت اسمها إلى سرايا الدفاع عن بنغازي بعد أن صنفت كجماعة إرهابية من قبل المجتمع الدولي .
الاختلاف أن هذه القوى في طرابلس تعمل تحت رعاية ما يسمى حكومة الوفاق المعترف بها دوليا حتى الآن، رغم معرفة الجميع لكون الجماعات المسلحة المتطرف منها أو المصلحي هي التي تحمي مؤسسات طرابلس وتتقاسم أحياءها، وتتحكم في حكومة الوفاق والمجلس الرئاسي نظرا لهذه المعطيات على الأرض، بينما الجيش الليبي المنبثق عن السلطة الوحيدة المنتخبة في ليبيا يحاصر هذه المجموعات المسلحة التي تطرحها حكومة السراج كجيش وطني رغم أن لا اثنين من المسلحين يستطيعان أن يضبطا خطوتهما في السير مثلما تفعل الجيوش .
تركيا الحاضنة والداعمة لكل الجماعات المتشددة في إدلب تحت تسمية المعارضة تحضن وتدعم هذه الجماعات في طرابلس ومصراتة تحت اسم الشرعية، بل إن الملفين يتداخلان بشكل قوي حين تنقل تركيا مقاتلين إسلاميين من إدلب إلى مطارات وموانئ طرابلس ومصراتة، ما جعل البعض يتوقع السيناريو السوري المعقد أن يتكرر في ليبيا برعاية تركية وتواطؤ روسي، في مرحلة تتقاطع فيها مصالحهما وفق هذه اللعبة، ولا نعرف متى تفترق هذه المصالح مثلما افترقت الآن في إدلب بعد أن ذهبت اتفاقيات خفض التصعيد أدراج الرياح مع تقدم الجيش السوري مدعوما بالطيران الروسي في مناطق نفوذ تركيا وحلفائها من الجماعات المسلحة، ما يعتبره أردوغان إخلالا باتفاقياته مع روسيا.
الخطير في الأمر أن المقاتلين في إدلب والإرهابيين منهم خصوصا لا مكان لهم يهربون إليه فوق الأرض في هذه المرحلة حين تسقط إدلب إلا الدخول إلى الأراضي التركية، وبالنسبة لتركيا لا مكان تبعدهم إليه في هذا الكوكب إلا المناطق الواقعة تحت سلطة ميليشيات الرئاسي التي تحارب بنفس العقيدة التي تحارب بها هيأة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) والفصائل التابعة لجماعة الإخوان المسلمين السورية التي لم يبق غيرها فيما تسميه تركيا المعارضة. وهذا السيناريو المرشح والممكن جدا سيُدخل ليبيا في حرب طويلة وضروس مع هذه الجماعات التي لن يكون أمامها سوى البحر نحو الشواطئ الأوربية أو التسرب إلى تنظيم القاعدة في الشمال المغربي ودول الساحل بعد أن تتسبب في قتل الكثير من المدنيين في ليبيا وتدمير العديد من المدن كما فعلت في العراق وسوريا.
وأحب أن أختم بمقارنة واحدة بين الجيش والميليشيات، فالسلاح كله في المنطقة الشرقية يمكن جمعه في المعسكرات خلال أسبوع عبر أمر واحد من قيادة موحدة للجيش، ولكن بأي أمر، وممن يصدر هذا الأمر الذي يمكن بواسطته جمع السلاح بكل أنواعه في المنطقة الغربية؟. ونحن ندرك أن انتشار السلاح هو العائق الأساسي أمام أي استحقاق لبناء الدولة.