من الأمثال الحِرفية
خالد القشطيني
يتعلق الكثير من الأمثال الشعبية بالحِرف والصنائع، كالنجارة والحدادة والحياكة، وهي كثيرة. ولكن من أظرفها قول العراقيين «شمّع الخيط» (بتشديد الميم وصيغة الفعل الماضي). والمقصود به إذا قلت إن فلاناً شمع الخيط، أنه هرب من عمله بالحيلة، ودون ترخيص بالغياب. ويقولون أحياناً «ضرب الباب» في تأدية المعنى نفسه. ويعبر الإنجليز عن ذلك بقولهم «أخذ إجازة فرنسية». ولا شك أن الإنجليز يغمزون بذلك الفرنسيين، على عاداتهم، وحسب نظرتهم، بأن الفرنسيين قوم فوضويون لا يحترمون القانون أو النظام. ومن المحتمل أن الفرنسيين لهم قول مِشابه. ربما يقولون «أخذ إجازة إنجليزية»، وهو قول يصح كثيراً في هذه الأيام.
وكما نتوقع، والشرود من العمل ظاهرة عامة في عالمنا العربي، صيغت أقوال مختلفة للتعبير عن ذلك. يقولون في لبنان «ضرب جواز»، وفي الجزيرة العربية يقولون «أعطاها القاز». بيد أن المثل العراقي «شمع الخيط» له خلفية حرفية ظريف؛ ذلك أن الإسكافيين اعتادوا في السنين الغابرة على خياطة الأحذية القديمة بخيوط يدلكونها بالشمع لتقويتها. وكانوا يعهدون بهذا العمل البدائي والممل إلى الصبيان الذين يعملون في دكانهم. وبالطبع كان جل ما يحلم به هؤلاء الأولاد الهرب من الدكان وأعماله المرهقة.
يتم تشميع الخيوط بوضع أوتاد في الطريق تمتد إلى مسافة طويلة، ثم يشدون الخيوط عليها لتشميعها. يأخذ الصبي قطعة شمع، ويبدأ بتشميع الخيوط انطلاقاً من الدكان. لا يزال يفعل ذلك، ويتقدم في عمله متراً بعد متر، حتى يبتعد كثيراً عن الدكان، ويختفي عن أنظار سيده الإسكافي. وعندئذ يرمي بقطعة الشمع من يده ويهرب.
بعد آونة وجيزة، يفتقد الإسكافي هذا الصبي فيسأل عنه، أين هو؟ فيقولون له إنه «شمع الخيط»، أي ذهب لتشميع الخيط فهرب. وسار القول مثلاً.
ومن الطريف أن لهذا المثل ما يناظره في أدبنا القديم. كانوا يقولون «شمع» (من دون تشديد الميم) بمعنى تفرق. ومنها قول الفقهاء «إذا شمعت الفارة في البئر، أي تفرقت واختفت. وشمع أيضاً تعني مزحاً ولعباً. والمرأة الشموع هي المرأة اللعوب. وعلى غرار ذلك وردت في قول أبي الطيب المتنبي الذي قال:
لحاها الله إلا ماضييها
زمان اللهو والخود الشموعا