مليشيا الموظفين والنفط اللعين
فرج عبدالسلام
دخل مصطلح “مليشيا” قاموسَ الليبيين بقوة في السنين الأخيرة، بفعل تحوّلات ثورة فبراير، عندما فشلت من تُسمى بالنخب والقيادات في توجيه سفينة الوطن المضطربة إلى برّ الأمان، فاختلطت الأمور، ووصلت القيمُ إلى الحضيض، وهي التي كانت متدنية أصلا، ووجد ضعافُ النفوس في ذلك الوضع فرصة لنيل الفوائد المادية والمعنوية، وهم الذين تربّوا طوال عقود، وبمنهجية خبيثة، على وضع مفهومِ الوطن والوطنية خلف ظهورهم، واللجوءِ إلى مفهوم “إيدك وحديدك…” فكان أن برزت المليشيات المختلفة، تحت “مسمّى الثورة” طبعا، ليتبيّن على الفور السبب الحقيقي لظهور هذه المجاميع المسلحة في ظل غياب سلطة الدولة، وهو نهب ما يمكنها دون حسيب أو رقيب.
لكننا في هذا الخضمّ، قد نغفل عن أخطر المليشيات الموجودة على التراب الليبي، وأكثرها تأثيرا بالسلب على مستقبل الوطن.. والتي يعود تاريخ تأسيسها إلى عقود طويلة مضت، وإلى ظروف مختلفة تتعلقُ ببنية المجتمع الليبي وثقافته العامة، وتأصّلِ الثقافة الريْعية، التي ساعد انقلاب سبتمبر 69 في إنعاشها، ورعايتها حتى وصلنا إلى المأزق الكارثي الحالي.
طوال التاريخ الليبي الحديث ترسخ لدى الليبيين مفهومٌ يفيدُ بأن أقصى الأماني في الحياة، هو الحصول على وظيفة في الدولة، بمرتب ثابت، وتقاعد مضمون… وبالتالي كان السعيُ الحثيث لدى الأغلبية لتوظيف كل الجهود والوساطات للحصول على الوظيفة، والانضمام إلى هذا الجيش العاطل في معظمه، وفي أغلب أوقاته. حيث تقدّرُ آخر الإحصاءات الرسمية أعداد العاملين في القطاع الحكومي بنحو 1.8 يشكلون نحو 25% من سكان البلاد، فيما يبلغُ الحد الأدنى للأجور 450 ديناراً، وهو مبلغٌ ضئيل تصل قدرتُه الشرائية إلى مستوىً يقرب من الصفر، ومع ذلك يتمسك الكثيرون بالوظيفة، باعتبارها الضامن الأساس لحياتهم، في ظل توقّف المشاريع التنموية الحقيقة، والرؤيا الشاملة لتنشيط عجلة المجتمع، وتطبيق برامج التنمية المستدامة لخير البلاد وأهلها.
بالرجوع إلى حوليات الوطن بعد الاستقلال، تبيّنُ الوقائعُ التاريخية أن حكوماتِ المملكة المختلفة، كانت تضع الخطط التنموية المختلفة للتغلب على ظاهرة تضخم الملاك الوظيفي، من خلال تقنين الوظائف الحكومية، وتنويع النشاطات الاقتصادية، وحققت في هذا المجال نجاحات باهرة، إنما لتأتي سلطةُ الانقلاب وتقوّضُ كل تلك الجهود، وتجهز على خطط التنمية هذه، بل ويضعُ نظام الانقلاب خططا منهجية لتجنيد مئات الآلاف في الليبيين في الوظائف المختلفة، في بطالة مقنّعة ودون أي إنتاج حقيقي، لكي يضمن بقاء الناس أسرى لمرتب ضئيل لا يكاد يسد الرمق، واقترن ذلك بدعم غير منضبط للسلع الاستهلاكية الأساسية، وبالتالي اعتقد النظام أنه قد تمكّن من رقاب الليبيين، وجعلهم مستعبدين لرؤاه وثقافته المدمّرة، ولكن فبراير جاءت لتقوض كل ذلك.
ليس معنى ذلك أن نظام فبراير الذي جاء على أنقاض نظام سبتمبر، كان له طرحٌ إيجابي مختلف للتعامل مع مليشيا الموظفين، بل وفي غياب السلطة الرشيدة الفاعلة، تفاقمت المشكلة بازدياد وتيرة التوظيف في المؤسسات الحكومية، مع زيادة فلكية في مرتبات الموظفين، بحيث بلغت مخصصات بند المرتبات نحو 65% من الميزانية العامة، وهو رقم خيالي غير مسبوق في كل الأنظمة الريْعيّة في العالم..
يتفقُ خبراء المال والاقتصاد لدينا، على أن ما نقوم به في مجال رعاية وتنمية سطوة “مليشيا الموظفين” هو نوعٌ من الانتحار البطيء، وإذكاءٌ لنار التخلف والاتكالية التي ستظل مشتعلة لتلحق الضرر بكل مقدّرات الوطن وأجياله القادمة، ولعل الأهم من كل ذلك هو تعويدُ الليبيين على استمراء البطالة المقنّعة، ومنع أيّ فرصٍ للتحوّل نحو العمل الخلاق وتحقيق تطور اقتصادي واجتماعي، أسوة ببقية شعوب العالم… ليس لنا في النهاية إلا الأمل في قيام سلطة موحّدة فاعلة علّها تتمكن، ولو بعد فترة طويلة، من القيام بعملية “تقليص الضرر” عن طريق البدء في تطبيق برامج تنموية حقيقية مختلفة، والعمل بمهارة على التخلص من الثقافة الريْعية السائدة، التي تعمل تحت شعار “رزق حكومة الله ايدومه” لكن يجب ألاّ ننسى كذلك أن نمطر اللعنات على هذا النفط القاتل الذي أوصلنا إلى هذا المآل، وحوّلناه بفعل استهتارنا من نعمة إلى نقمة.