مفهوم خاطئ للنجاح
فرج الترهوني
(مقامك حيثُ أقمتَ نفسك لا حيث أقامك الناس فالناس لا تعدل ولا تزن.) – الرافعي
لدى أغلبنا في هذا الجزء من العالم الذي يُسمّى فكرةٌ مختلفة عن معايير النجاح في الحياة، عمّا هي عليه في العالم الأكثر رقيّا وتطوّرا. الأمثلة التي في غير صالحنا لا تحصى، والتي تبيّن أن مفهومنا للنجاح في الدراسة وفي العمل وفي الحياة عموما مختلفٌ كثيرا، وأنّ هذا المفهوم يؤدي إلى نتائج كارثية على الأفراد وعلى المجتمعات في معظم الأحيان.
في البداية لا بد من الإقرار بأهمية العملية التعليمية المتعارف عليها في العالم أجمع، وهي تكاد تكون متشابهة، تهدف بطريقة منهجية وتدريجية إلى تلقين الطلبة ما يلزمهم من العلوم الإنسانية والتطبيقية ليكونوا مواطنين فاعلين في بلدانهم، وربما خارجها أيضا، ويتمّ ذلك عبر المرور بمراحل تعليمية محددة، يجري تقييمها بطرقِ نجاحٍ معتمدة، تتحقق بإجراء امتحانات يتعيّن اجتيازها في كل مرة، ليحصل الطالب في النهاية على شهادة تؤهله للعمل وخوض معركة الحياة. ولا ننسى في هذا المقام قولا شهيرا للعظيم شيكسبير نَصّه: “الشهادة ورقة تثبت أنك متعلم لكنها لا تثبتُ أبدًا أنك تفهم.”
نبّهنى هذا الموضوع إلى اختلاف كبير في المعايير والمفاهيم لقيمة الشهادة العلمية وما تحققه في الحياة (بيننا) و (بينهم) والأمثلة كثيرة لا يمكن حصرها، التي تؤكد (عندهم) أن الشهادة التعليمية ليست معيارا حقيقيا للنجاح في الحياة، وتحقيق الإنجازات النافعة للشخص، وللمجتمع، وأحيانا للعالم أيضا!
يحضرني في هذا المقام مثالان نابضان بالحياة، يرشداننا إلى أن الشهادة التعليمية المتعارف عليها، ليست مقياسا دائما للنجاح في الحياة، ويقدّمان لنا مثلا ناصعا، وأملا كذلك، لتغيير مفاهيمنا حول النجاح. هناك “جاريد إيساكمان” المولود عام 1983، والذي لظروف خاصة لم يُتمّ تعليمه الثانوي، لكن ذلك لم يمنعه من أن يُصبح أوّل رائد فضاء هاوٍ، وأن يقود مركبة الفضاء (انسبايريشن 4) التي حلقت في الفضاء لثلاثة أيام متواصلة، مع طاقم من ثلاثة هواة أيضا..
بجميع المقاييس يُعتبر إنجاز إيساكمان غير مسبوق، فهو الذي بدأ حياته العملية في الصف التعليمي التاسع بورشة لإصلاح الكومبيوتر في قبو بيته، وتطوّر الأمر به ليؤسس شركة وصل رأسمالها إلى 11 مليار دولا، وأن يتعلم ليصبح طيّارا مرموقا. ويصف نفسه دائما بأنه فشل في دراسته الثانوية.
قصة نجاح إيساكمان، لا تضاهيها إلاّ حكاية الشخص الأكثر شهرة في عالم تقنيات الاتصال، وهو الراحل “ستيف جوبز” الذي قرر التخلّي عن الدراسة الجامعية في سنته الأولى، لأنه لم ير فائدة في صرف مدّخرات والديهِ بالتبني في مواصلة دراسة غير مفيدة كما رآها آنذاك، وعاش فترة طويلة يقوم بأعمال بسيطة وينام على الأرض عند من يقبل به من أصدقائه، لكن إيمانه بنفسه وبقدراته جعله يجتهد ويخترع، واستطاع أن يُخرجَ للنور جهاز الماكنتوش (ماك) بأنواعه، وأن يخترع ثلاثة من الأجهزة المحمولة وهي: آيبود وآيفون وآي باد التي نستخدمها بكثافة، والآن بالكاد يخطر على بالنا العبقري الذي كان وراء خروجها للوجود، وتغيير وجه العالم بواسطة شخصٍ لم ينل تعليما جامعيّا.
بالمقابل نرى كل يوم في أوساط مجتمعاتنا التي أقل ما يُقال فيها إنها متخلّفة عن العالم وعن ركب الحضارة، أننا نُقدّس الشهادات التعليمية ودورها في الحياة، حتى وهي لا تساوي شيئا، وحتى إن كان نيلها قد تم بطرقٍ ملتوية، ليس أقلها الغش…
وكذلك تطالعنا في كل عام أخبار من ينتحرون لأنهم رسبوا في الامتحانات، أو أنهم لم يحصلوا على درجات تؤهلهم لدخول الكليات المرموقة في عين المجتمع مثل الطب والهندسة. فاختاروا التخلص من حياتهم خجلاً من الأهل والأصدقاء بسبب هذا العار العلمي!
ومع ذلك لا يجب أن ننسى أنّ كثيرين قد يفشلون في الامتحانات العلمية العامة، لكنهم ينجحون في أداء مهنٍ أخرى، ويحتاج المجتمع إلى خبراتهم فيها.
وفي الختام يقول (ال باتشينو) أحد أشهر الممثلين في العالم، وهو أيضا لم ينل تعليما دراسيا مناسبا إن “الشهادة ورقةٌ تثبت أنك متعلمٌ، لكنها لا تثبتُ أبدًا أنك تفهم!”