مفخرة الفساد
سالم العوكلي
لم تكن ثقافة الفساد والنهب والغنيمة حديثةً في ليبيا، ولم ترتبط فقط بما عمّ من فوضى بعد انقضاض اللصوص على ثورة فبراير، لكنها تشكلت منذ إعلان النقاط الخمس وما تمخض عنها من ثورة إدارية وتعطيل لكافة القوانين، واستفحلت مع بداية إعلان سلطة الشعب وإطلاق ما سمي “عصر الجماهير” الذي قوّض كل المؤسسات الرقابية التي رسختها دولة الاستقلال، تحت شعار: “الشعب يراقب نفسه بنفسه”، بينما تحول القطاع العام المهيمن ورشة نشطة للفساد على امتداد الوطن، وغدت استباحة المال العام سلوكا غير مستهجن، مثلما أصبحت قبله استباحة الأملاك الخاصة شعارا ثوريا رنانا، والجيل الحالي الذي لم يكن ضمن تلك الطبقة الفاسدة، هو جيل ترعرع في هذا البيئة وهذه الثقافة وكأنها الوضع الطبعي للدولة.
تحدثت سابقا عما حدث من تبيئة وترويض لمفردة السرقة حتى أصبحت مع الوقت مفردة مرحة ومرادفا للشطارة، بينما مفدرة النزاهة أصبحت مرادفا للغباء أو الدروشة في أفضل الأحوال، وأصبح السُرّاق والمختلسون يتفاخرون دون خجل بما ينعكس على حياتهم من هذا المال الحرام، ويلتقطون الصور بقرب غنائمهم، يبنون القصور بالمال المسروق ويكتبون على واجهاتها “هذا من فضل ربي”.
هذا التفاخر بمردود الفساد، أوحى لي بتسمية هذه المقالة “مفخرة الفساد”، وأنا أتابع حلقة الأربعاء الماضي من برنامج (البلاد) في قناة 218، وحين تحدث الإعلامي المميز خليل عن سيارة (المفخرة) واعتبرها رمزا للفساد، مع تقديم احترامه للبعض، وهو من باب احتراز أخلاقي لا يعني أن كل مفخرة ليس وراءها جريمة فساد. كنت دائما أستغرب كيف يضع شخص مليون دينار أو اقل بقليل في سيارة معرضة في أي وقت للسرقة أو لحادث في هذه الطرق المتهالكة، إنها تعادل ثمن عشرة بيوت فخمة تحل مشكلة 10 عائلات دون سكن. لكن ما يزيل استغرابي أن مالها لم يكن نتيجة تعب أو كدح، ولا غرابة في أن يتفاخر شخص بمفخرته طالما جاءته مجانا ومقابل فساد أو سماح بفساد، وسوف احترز أيضا واستثني إذا ما كان قلة تحصلوا عليها بمالهم الخاص. ويظل السؤال قائما: من أين هذا المال الذي يجعل شخص يتفسح في عشرة فلل فخمة في بلد تكتظ بقطاع طرق السيارات الفارهة؟.
مفخرة الفساد، أو فساد المفخرة، عنوان لثقافة تفشت في مجتمعنا منذ عقود، حين نرى تفاخر اللصوص بما يسرقونه علنا في زمن كان على الشعب ان يراقب نفسه بنفسه، وبالتالي فهذا يعني لا رقابة إطلاقا، مثلما نقول على الشعب أن يطبب نفسه بنفسه أو يعلم نفسه بنفسه، إلى الزمن الذي تفسخ فيه الملح وأصبحت كل جهات الرقابة والمحاسبة جزءا من شبكة الفساد. وإذا تعفن الملح فما الحل؟. الملح الذي من المفترض أن يحمي أي شيء من العفن إذا تفسخ فالرائحة الكريهة ستتفشى في كل مكان. ومَن مِن الليبيين لم يشم تلك الرائحة الكريهة وهو يرى على شاشة قناة 218 الوثائق التي تثبت فساد الملح، فساد مؤسسات الرقابة والمحاسبة. مع استثناء للشرفاء في هذه المؤسسات الذين لفظتهم هذه الشبكة خارجها ودفعوا الثمن.
هذه الشبكة من الفساد تطبق بمخالبها العفنة على مستقبل ليبيا وقوت شعبها، وتنشر الجوع والعازة والتسول في أرجاء الوطن، ورغم كل شيء هي طبقة محدودة لأنها تسعى لأن تخفض أعدادها كي يزيد مقدار الحصص الموزعة بينها. ما يعني أن المتضررين منها أغلبية عارمة ، ولا حل مع هؤلاء اللصوص الذين أطبقوا على مفاصل الدويلة أو الدويلات المرهقة وعلى فرص المجتمع في العيش الكريم، إلا خروج الأغلبية في مواجهتهم ونزع حقوقهم ممن سرقوها وتفاخروا بما يسرقون، فكم من جوع ولد ثورة. في زمن الاحتكار القبلي وتفشي الفساد قال أبوذر الغفار: عجبت لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج للناس شاهرا سيفه” ولم تكن دعوة للعنف أو السلب، لكنها استعارة لوصف مدى الغضب الذي يعتري الإنسان حين يجوع وهو يرى قوت يومه في أيدي اللصوص، لا يمكن أن نقبع في بيوتنا منتظرين الحل من هذا الطبقة الفاسدة وهي تعرف أن أي حل حقيقي سيضعها في السجون، وحتى عندما حاولت مفوضة الأمم المتحدة بالنيابة أن تخرج من هذه الدائرة، وتؤسس جسما جديدا (لجنة الخمسة وسبعون) لوضع خارطة طريق جديدة، تسلل الفساد إلى هذا الجسم لأن بعض من أختيروا فيه لديهم قضايا فساد مسجلة في المحاكم، وشبهات موثقة باختلاس المال العام، وهو المال الذي استخدموه في دفع الرشاوى لفرض قائمة من السلطات العليا، لأن الفساد منظمة وسيظل يدافع عن نفسه وعن منتسبيه بشتى الطرق، بما فيها عرقلة الانتخابات أو أي خارطة طريق تتجاوزهم.
على الناس أن يخرجوا شاهرين مطالبهم بالقضاء على الفساد والفاسدين واسترداد حقوقهم، لأن الفاسدين بطبيعتهم جبناء وفي غياب الرقاية لا يخافون سوى الحشود الغاضبة. وهو أمر ليس صعبا وتحقق بعضه أو كثير منه في الآن وفي الجوار. لقد وضِع لصوصٌ كبار خلف القضبان في الجزائر والسودان وتونس بعد مطالبات شعبية ملحة، وحين تضرب الكبار يخاف الصغار، وإذا ما سلمنا بعض الشيء أن الملف الليبي مختلف إلا أن أطراف معادلة الفساد متشابهة في كل مكان وزمان. قلة فاسدة في مقابل كثرة تدفع الثمن، أو قلة متخمة في مواجهة كثرة جائعة، وهذه الكثرة المتضررة لا حل لها سوى أن تخرج في مواجهة: طبقة سياسية ترعى هذا الفساد وتشارك فيه، ومؤسسات رقابية هي جزء من الشبكة، وميليشيات مسلحة تحمي اللصوص مقابل عمولات. قد تبدو المواجهة صعبة، لكن الحشود دائما تنتصر حين تحين لحظة الغضب لحظة الحساب.
عندما تفسد السلطات الثلاث، وحين يتعفن الملح، يأتي دور السلطة الرابعة (الصحافة والإعلام) لكي تتقصى وتفضح وتبين للمجتمع أين ذهبت ثرواته، وهذا ما تقوم به قناة 218 بامتياز. نعرف أن الظرف مازال غير متاح لأن يحاسب هؤلاء اللصوص طالما هم مطبقين على مفاصل الدولة، لكن مجرد التشهير بهم وعبر وثائق وأدلة نوع من العقاب، ورغم أن الفساد أصبح مفخرة إلا أنه مازال لمفردة الفاسد وقع قوي خصوصا في سمع الليبيين.
التاريخ مديد وطويل، ودائما عمر الفساد والفاسدين قصير، وكل هؤلاء الذين خانوا الأمانة سيذهبون إلى مزبلة التاريخ، فهم يرون في نشرات الأخبار من كانوا أقوى منهم وأكثر نفوذا خلف القضبان، تاركين لأولادهم وأحفادهم إرثا من العار. سيفضح بعضهم البعض حين يحين وقت النزاع على الغنيمة، والأدلة تأتي دائما لأن شبكة الفساد مثل عصابات المخدرات، غالبا ما تتنازع فيما بينها وتصفي حساباتها فيما بينها بطرق شتى، مع احترامي لكل صاحب ضمير في مؤسساتنا يسعى لإيصال هذه الوثائق والأدلة إلى نظر وسمع الليبيين الشرفاء في انتظار أن ينظموا صفوفهم في مواجهة هذه العصابات التي مازالت تمشي فوق السجاد الأحمر وبجوازات سفر حمراء.