(مفاهيم ملتبسة.. ولا بديل عن الديموقراطية)
خليل الحاسي
أجدني خلال هذه المقالة توّاق لانتزاع بداهة القضايا المدركة من أفق النظر إلى ظاهرة الانتفاضات الشعبوية في المنطقة. ولا يتوفر لدي في هذا الاسْتكتاب الذي تمليه حالة القلق الثقافي مسوغ واحد يجعلني مطمئنا لوصف تلك الثورات بثورات الربيع العربي، لأنها لم تكن منشغلة بالقضايا التي تلتف حولها العقيدة القومية العربية خارج دولها، بقدر ما كان يحركها نازع استعادة شرعية الدولة القُطْرية المستقلة في اتجاه الداخل، بعد رحلة التيه الإقليمية للأنظمة التي مدّت أشرعة شعاراتها لرياح الوهم.
تثور – هنا – الأسئلة التي تستدعي أشكال وأنماط الحياة الاجتماعية التي شكّلت ليبيا قبل الحدث الثوري في السابع عشر من فبراير لعام 2011. ويبدو من الأهمية بمكان فهم التحولات التاريخية السياسية لإدراك واقعنا الراهن، فالتاريخ هو الإطار الذي يشكل الحاضر معرفيا ووجوديا، وهو الطاقة الديناميكية الرابضة في أرض الواقع المُعايش.
حاولت الآلة الإعلامية في زمن العقيد حفر خنادق حول نظامه، حيث مثَّلت الأخيرة فراغا سياسيا وثقافيا شكل هُوية عُزلوية اكتسبتها شخصية النظام الحاكم. وعاش المجتمع الليبي خلال ذلك تحت خط فقر ثقافي بسبب انشغال النظام بتحديث شكل الدولة وحرصه على دوره الإقليمي من خلال خلق سياسات جديدة على مستوى الانفتاح، في المقابل تجاهل تحديث المجتمع، محافظا على الواقع المجتمعي الراهن المغرق في الانتماءات الأوليّة المحددة بالدين أو القبيلة.
كان الدين والقبيلة يمثلان الحد الأدنى تحت خط الفقر الثقافي الذي لن يستطيع النظام الديكتاتوري المساس به. فالأنظمة الفاقدة للشرعية السياسية تجد ضالتها في حقائق الدين المنافحة عن سلطة ولي الأمر، إضافة إلى أن حرية التجمع للصلاة في المساجد واجتماعات القبائل كانت عصيّة على آلة القمع، ولأنها في الوقت عينه تبقي معادلة الحاكم والرعية في حالة اتزان مع السياسات الحاكمة. إن حضور جماعات الإسلام السياسي في صورة مموهة كمجتمع مواز، يفسر انتشار مظاهر الإسلام الشعائري والتديّن الذي مثّل في مرحلة ما نوعا من المقاومة “النبيلة” الصامتة للأنظمة الاستبدادية التي غيّبت الحركات اليسارية والعَلمانية داخل السجون. فتحولت القالات الدينية إلى شعارات سياسية آمنة، وانشغل الجيل الثاني من الإسلاميين بتكوين مذاهب سياسية من نقي عظم النصوص القرآنية في مواجهة أنظمة الحكم المؤبد التي سدت أفق التغيير السياسي. ولكن المفارقة التي تتسم بالمصداقية اللاذعة تتمثل في الموجة الإسلامية التي انطلقت في نهاية الثمانينات، تحركها مطالب دنيوية عَلمانية صريحة؛ لقد مثّل صعود نجم الإسلاميين في سماء حلم التغيير ثأر الطبيعة الاجتماعية من التلاعب السياسي المصطنع بها. في المقابل شكلت القبيلة هُوية صلبة ضربت خيامها حول مثقفيها وسياسييها وأعلامها، ووقعت عقدا اجتماعيا غير مكتوب مع النظام الشمولي الذي منحها دورا لن تجده – بطبيعة الحال – في سيناريوهات الدولة المدنية، وبدت الظروف في تلك المرحلة غير مواتية للدمقْرطة، ذلك أن موجة التحول اصطدمت بجهد سياسي واضح لتسْييد القبيلة على بقايا مجتمع المدينة الموروثة من تركة الاستعمار الأوروبي. أكثر من ذلك، اشتغلت قوى الديكتاتورية على مشروع ضخ ثقافي اجتهد في تضخيم دور القبيلة كراع موثوق ووحيد للسلم الأهلي، ناسجًا الأساطير حول ملاحم الفضيلة المُختلقة لنظم القيم داخل أسوار القبيلة؛ “ميثاق الحرابي” الذي كان برعاية إنجليزية أنموذجا.
كان الوضع في ليبيا مختلفا بالنسبة للحالات الثورية التي ضربت المنطقة، ذلك أن الدولة كانت متشابكة ومُتعالقة مع النظام على النحو الذي لا يسمح بنجاة الأولى مع انهيار الأخير.
تصدّع الصرح القائم على ولاء القبائل، ومعارضة الجماعات الدينية المعادية للانتماء الوطني؛ لذلك لم يجد الليبيون أوطانا بقدر ما وجدوا دويلات قبلية ودينية، تحاول رصد مواقع سلطوية لها.
وبعد انتخابات السابع من يوليو لعام ٢٠١٢ وصل أهل الدين السياسي إلى مراكز السلطات التشريعية والتنفيذية وتمكّن بعض “مجاهدي”أفغانستان وأخوة السلاح غير التائبين من تقلّد وظائف مهمة داخل الدولة الهشة التي أفرزها الحدث الثوري الانفجاري. حينذاك، خلق عنف الإسلاميين حالة مفاهيمية مشوشة، وجّهت سهام الرأي العام نحو قيمة الحرية بوصفها كلمة السر التي فتحت أبواب الجحيم أمام كل الجماعات الإسلامية على اختلاف أسمائها. رغم العنف المفرط الذي أنتجته ظاهرة الانتفاضات والحروب الأهلية في المنطقة، إلا أنها بدأت تعيد الاتزان العقلاني للمجتمع. فقد خسر الإسلاميون موقع الضحية مبكرا بسبب تخندقهم مع التنظيمات الجهادية المسلّحة، وقلّ الطلب عليهم مع وجود هُويات سياسية متنوعة، وأصبح تنامي نفوذهم داخل المجتمع يقع تحت طائلة أدائهم السياسي والاقتصادي.
تشهد الحالة الليية اليوم على معركة كسر عظم بين قوى الديموقراطية وقوى الجهل الذي سيجتذب نحو الليبيين موجة هائلة من الخراب القيمي. ولو كانت قيمة الحرية المتنازع عليها، مجرد قضية جدالية حول التصورات أو الأفكار المتواشجة مع وقائع التاريخ الإنساني في تجربته الخالدة، لكان لي مسوغات تعزز من اعتبارها تدافعا فكريا يقوم بعضه بعضا. بيد أنني أتحدث عن اتجاهات اجتماعية ثقافية تحافظ على استمرارية متوهّمة في النظر لارتباط القمع بالاستقرار، وتمنح الديكتاتورية فضائل لا تستحقها. أكثر من ذلك، لا تنفك عن دمغ السلوكات الإرهابية بقيم الحرية في مغالطات شنيعة لا تتورع عن تلوين المفاهيم. في نهاية المطاف دعوني أقول باختزال وجيز، إن غياب الحرية هو الذي يفسر حضور الفوضى، وغياب الديموقراطية هو الذي يشرح أسباب التخلف الذي يمجّد العبودية والاستكانة لمناهج القمع.