مشروع الدستور الليبي في ميزان الدنيا
سالم العوكلي
بعد ثلاث سنوات وثلاثة أشهر وثلاثة أيام من تاريخ عقد أول اجتماع لها أصدرت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، بتاريخ 25 يوليو 2017 ، صياغتها النهائية لهذا المشروع الذي بمجرد صدوره بدأت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الحديث عنه بين مؤيد عمياني يريد للأزمة أن تنتهي بأية طريقة، وبين ناسف للمشروع مستفيد من هذه الأزمة، أما الآراء المتحذلقة فإما أنها من قبل غير مطلع على النص، أو مطلع عليه بسرعة، أو ذاهب إلى الباب الذي يبحث فيه عن مصالحه الشخصية ولم يجد ما يلبيها وظلت الأغلبية الصامتة على صمتها لأنها ما عادت تؤمن بشيء وما عادت تثق في شيء بعد سنوات عجاف أوصلتها إلى حضيض المطالب المتعلقة بالأمن والقوت.
بعيدا عن هذا الصخب جلس خمسة أكاديميين بهدوء لمعايرة هذا المشروع بشكل علمي انطلاقا من المسح الاستطلاعي الشامل للدساتير العالمية المتمثل في إجابات “184 دستورا (من 190 دستورا ظل نافذا حتى عام 2006) عن 350 سؤالاً حول القضايا والتفاصيل التي يمكن أن تشتمل عليها هذه الدساتير، وكان مركز البحوث والاستشارات في جامعة بنغازي قد ترجم هذا العمل إلى العربية، وسلم نسخة ورقية وأخرى إلكترونية لكل عضو من أعضاء الهيئة التأسيسية”.
صدرت هذه المعايرة الهامة في كتاب “معايرة لمشروع الدستور الليبي” عن مركز دراسات القانون والمجتمع ـ جامعة بنغازي. أعده كل من: د. جازية شعيتير ، د. زاهي المغيربي ، د. سليمان إبراهيم ، د. نجيب الحصادي، د. هالة الأطرش.
وتذكر توطئة هذه المعايرة العلمية التي “تحتكم إلى معايير موضوعية ومحايدة قدر الإمكان” أن الدراسة توظف “النتائج التي أسفر عنها (المسح الاستطلاعي الشامل للدساتير العالمية) الذي تضمنه (مشروع الدساتير المقارن)، في تحديد مدى اتفاق واختلاف مواقف المشروع من المسائل المختلفة مع المواقف المتخذة في أغلب دساتير العالم. ولأن هناك تمظهرات للمشترك الإنساني لا تقل أهمية، تشمل العهود والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق المواطنة وحقوق الإنسان، والتوجهات السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم، يلزم في عملية التقويم إيلاؤها قدرا مناسبا من الاهتمام.”.
وتعتمد هذه الدراسة على أربع أدوات للمعايرة، تتمثل في: المشترك الإنساني، الخصوصية الثقافية، الظرف الانتقالي، ودقة الصياغة. والتي في مجملها تحدد الدلالة المقصودة من استحقاقات هذه المعايير التي رأى الباحثون أنها تشكل مفاصل أساسية لمسارات إنشاء هذه الوثيقة.
من أجل توفر إمكانية إصدار تقويم محدد لكل مادة أو باب تعتمد هذه الدراسة ما سمته بـ “الأوزان النسبية” حيث الحاجة لهذه الأوزان “الخاصة بكل أداة من أدوات المعايرة التي تطبقها هذه الدراسة، تتمثل مهمته في الإجابة عن أسئلة من قبيل ” أيهما أقل ضرراً، النأي عن مشترك إنساني، أو الجور على خصوصية ثقافية، أو الفشل في استجابة لظرف انتقالي، أو الاختلال في الصياغة؟” وفي غياب هذه الأوزان لن يكون بالمقدور إصدار تقويم عام لأبواب المشروع، وللمشروع بأسره.
أما آلية المعايرة أو أساليبها، فتقوم على اعتبار عام مفاده “وجوب أن يعبر المشترك الإنساني عن قيمة إنسانية جديرة بالاحترام وتجمع عليها أغلب شعوب العالم وأكثرها عددا، وأن تكون الخصوصية الثقافية متعلقة بالهوية الوطنية ولا تكون مشتركا محليا معيبا يفترض أن يسهم الدستور في تقويمه، وأن يكون الظرف الانتقالي ملحا والاستجابة له ضرورية، وأن تكون الصياغة دقيقة تماماً”.
لا تنسى هذه الدراسة أن تشير في فصل تحت عنوان “احترازات منهجية” إلى أن الأحكام التي ستخلص إليها ليست قطعية أو غير قابلة للجدل، مبينة الأسباب العلمية وراء هذا الاحتراز “إن هذه الدراسة محاولة جادة لاتخاذ مواقف من الجدل المثار حول مواد المشروع، لكنها لا تعد بحسمه، ولا تجزم بصحة ما اتخذت من مواقف، على الرغم من أن فريق العمل التزم ما وسعته السبل مبادئ الموضوعية والحياد”.
كما تشمل “بيانات المعايرة” جدولا مختصرا يحدد قيما رقمية تعكس تقويم فريق العمل لمواد المشروع وأبوابه (المعايرة المختصرة) وعرضا مفصلا لمآخذ الفريق على كل مادة ـ وفقا لمعايير المعايرة المذكورة ـ (المعايرة المفصلة) ، ورصدا لبعض الملاحظات العامة ، الشكلية والمضمونية، حول مواد المشروع وأبوابه، وحول المشروع برمته (المعايرة العامة).
أما الملاحق فتشمل “مزاوجة بين نتائج “مشروع الدساتير المقارن” ومواد مشروع الدستور تحدد عدد ونسبة الدول التي اتفقت أو اختلفت معها في المواقف المتخذة في مواده، ومجموعة من الدراسات لبعض مواد المشروع وأبوابه، فضلا عن دراسة تبين الأطوار التي مرت بها أعمال الهيأة التأسيسية لصياغة المشروع.”.
في الجدول النهائي الذي يبين تراتبية الاهتمام الذي يوليه المشروع لمعايير الدراسة الأربعة يتضح أن استجابة المشروع للاستحقاق الانتقالي أفضل من استجابته للخصوصية الثقافية أفضل من استجابته للمشترك الإنساني، في حين أنه لا يولي قدرا كافيا من الاهتمام لدقة الصياغة.
تصل الدراسة في النهاية إلى تقويم كمي بمؤشرات عددية للمشروع وفق المعايير التي قُوِّم بموجبها، بقدر ما يرضي أعضاء الهيئة غير المقاطعين يعتبره المعارضون مبالغا في تقديره للمشروع، غير أن الاحترازات المنهجية تتدخل في هذه الحالة، والملاحظات الهامة التي يُعلّق بها الدارسون تٌخفّض حماس مُعدّي الدستور بقدر ما تقوض تعميمات الرأي المضاد، وهذه هي طبيعة العمل المنهجي المحايد، وإذ يؤكد الدارسون نأيهم عن أي انحياز أو عواطف أو ضغوط تخل بالموضوعية بما فيها “الوطنية” التي قد تكون وراء هذا العمل وليست متدخلة في آليات معايرته الخاضعة لمؤشرات محايدة، فإنهم من ناحية أخرى يفسرون حصول بعض الأبواب على نسب عالية ومن ثم المشروع برمته، بكون “معظم المواد التي حصلت على درجات عالية ليست خلافية وأن معظم المواد التي حصلت على درجات متدنية خلافية. وأسوأ من هذا أن بعض المواد التي حصلت على درجة متدنية مواد حاكمة، بمعنى أن تأثيرها يطال بنية الدولة أو حقوقا أساسية”.
ويتضح من هذا الاحتراز المهم مدى الضغوط الأيديولوجية التي تسربت داخل المشروع والتي تسببت في عدم التوافق حياله وفي تأخره كل هذه المدة، وفي ارتباكه واكتظاظه بالتفاصيل التي ليست من طبيعة الدساتير.
وللتوضيح أكثر تهم الإشارة إلى مثال حصيف ورد ضمن نقاط (احترازات منهجية) فيما يخص الحكم على نجاعة هذه المشروع المعني به أجيال لاحقة “الحكم النهائي الذي تصدره الدراسة على مجمل المشروع أقرب إلى الحكم الذي يصدره طبيب يشخص حالة زائره عبر فحص عاداته اليومية، منه إلى الحكم الذي يصدره مدرس على تلميذ يمتحن قدراته الاستيعابية التحليلية. حقيقة أن معظم عادات المريض اليومية صحية، لا تعني من جهة أن حالته الصحية العامة جيدة، لأن سائر عاداته قد تكون مدمرة لصحته؛ ولا تستبعد من جهة أخرى أن تكون سائر عاداته من النوع الذي يمكن التعايش معه، أو يسهل تغييره”.
بمعنى حصول مريض على مؤشرات عالية في تحاليل طبية مختلفة لا تعني أنه قد يكون مصابا بمرض فتاك قد تظهر أعراضه في أي وقت، ويمكن استحضار مثال من قِبلي يتعلق بالمادة الخاصة بكون “الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، وحسب رأيي الشخصي، هذه النقطة في نهاية الجملة لا توقف الجملة فقط لكنها توقف الدستور عند هذا الحد وما سيأتي بعدها يشبه منهج التربية الوطنية أو الثقافة السياسية. فهي مادة حاكمة ومحصنة تنسخ وتنسف مواد كثيرة تتعلق بالحقوق والحريات ونظام الدولة، وتجعل التقويم الذي حصلت عليه لا معنى له، مع العلم أن نسبة الدول التي اتخذت هذا الموقف من الشريعة في 184 دستورا تعادل 1.1% (كما ورد في ملحق “مشروع الدستور مقارنا بالدساتير العالمية” حيث تنضم ليبيا وفق المشروع لهذه النسبة الضئيلة، وهذا يدل على مدى ضغط التيار الإسلاموي المتشدد داخل الهيئة وتساهله مع باقي التفاصيل التي يعرف أن هذه المادة الحاكمة المحصنة تفرغها من محتواها. وهذا أمر على قدر من الأهمية على الليبيين أن ينتبهوا له، خصوصا أن نسبته حتى بين الدول الإسلامية ضئيلة جدا وتكاد لا تذكر . وبعض الدول الإسلامية المتدينة التي تطرقت لموضوع الشريعة في دساتيرها ضمنتها كإحدى المصادر، أو أولوية ضمن مصادر تشريع أخرى.