مسلسل شيرنوبل: كارثة بشرية جسّدها الفن ببراعة
مقال اليوم لن يتحدث عن مسلسل Chernobyl كعمل فني بحت، أي أننا لن نتطرق إلى الجوانب الإخراجية والكتابة الخاصة بصنعه بدرجة كبيرة. بل سنتحدث عن صداه، وكيفية تجسيده لأجواء الأزمة بطريقة –في الواقع- أقل ما يُقال عنها أنها عبقرية.
التاريخ الإنساني مليء بالأحداث التي تستعدي الحديث عنها بين الحين والآخر. وبالرغم من تأريخ كل شيء، إلا أن هناك أشكالا وأنماطا مختلفة لنفس الحَدث التاريخي. كلها وجهات نظر لفصائل مختلفة، وكل فصيل يُخرج ما في جعبته ويطرحه على الجمهور. بعضها الدلائل منطقية، والبعض الآخر لا، لكن المؤكد هو أن كل حكاية تستحق لها مكانًا على خشبة مسرح الفن.
وفي تاريخنا الحديث، لا توجد أحداث أبرز من الأحداث المأساوية. أجل، الحديث اليوم سيكون عن أزمة انفجار مفاعل شيرنوبل الشهير، وكيف تناول الفن الأمر.
قصة المسلسل
في عام 1986، وبالتحديد في أوكرانيا بالاتحاد السوفيتي، حدثت كارثة نووية يعاني منها كوكب الأرض حتى وقتنا هذا، ولقرون ستأتي. فجأة، انفجر مفاعل شيرنوبل، الحادث كله تمركز في المفاعل رقم 4، والذي سلط المسلسل الضوء كله عليه. بينما قصة المسلسل نفسه تلعب على ثلاث مراحل متعاقبة: ما قبل الكارثة – الكارثة – ما بعد الكارثة.
يحاول مسلسل Chernobyl الإجابة عن الكثير من الأسئلة بين كل تلك المراحل، آخذًا إيانا في رحلة كابوسية؛ نحو المجهول.
لماذا Chernobyl مميز إلى هذا الحد؟
في الواقع، هناك العديد من العوامل التي ساعدت على نجاح المسلسل وترسيخه في قلوب وعقول المشاهدين، لكن أبرزها بالطبع هو القِصر المفاجئ.
المسلسل مكون من 5 حلقات فقط، وتُدرجه شبكة HBO أسفل شريحة المسلسلات القصيرة – Mini Series. هذا القِصر ساعد على تكديس الأحداث، وإجبار الكاتب على توليف كل شيء في سياق متتابع، تُسلِّم فيه الأحداث بعضها البعض في سلاسة. وهذا بالفعل ما أبرز ثاني نقاط قوة المسلسل: السرد.
تتابع السرد كان تصاعديًّا بدرجة مخيفة. في البداية اتسمت الأوضاع بالضياع النفسي والتشتت، خوفًا من المجهول. ثم بسرعة عُرِف المجهول، لكن بالرغم من ذلك تزايد الخوف والهلع من هول ما حدث. ذلك التصاعد استطاع الارتقاء بالمُشاهد من مرتبة المصدوم، إلى المُرتاب، إلى المرعوب. لكن مهلًا، هذا ليس كل شيء؛ فبدون الموسيقى التصويرية، لما كانت هناك حالة شعورية من الأساس، وهذا هو عنصر القوة الثالث.
الموسيقى التصويرية هي التي عملت على خلق الحالة الشعورية المتقلّبة لدى المُشاهد. تميزت المقطوعات الموسيقية في المسلسل بالهدوء القاتل والنغمات الجنائزية، مما تناسب مع الأحداث بشدة. مع كل مقطوعة تُعزف بخلفية مشاهد الخراب والدمار، تُدرك فعلًا ثمن الأكاذيب. بالمُجمل استطاع المسلسل إيصال كوكبة من الحالات الشعورية عبر التسخير الممتاز للموسيقى التصويرية، ممزوجة بالسرد المتصاعد، ومدعومة بالإخراج العبقري للمأساة.
كل تلك العوامل استطاعت أن تجعل هذا المسلسل مرعبًا أكثر من أفلام الرعب ذاتها. مجرد تخيُّل ما حدث، يجعل القشعريرة تدب في الأجساد فورًا. استطاعت HBO تقديم عمل رعب، بدون وضعه أسفل هذا التصنيف حتى، وهذا يُحسب لها بدون شك.
ثمن الأكاذيب
في البداية، قررت الحكومة السوفيتية (الروسية حاليًّا) حجب الخبر عن العالم، وغلق المدينة بالكامل، وبالفعل هذا ما حدث. لكن تأثير الإشعاع على البلاد المجاورة كان سريعًا، ولاحظ العلماء تجمع مواد لزجة على جدران النوافذ، كدلالة على وجود تسرب إشعاعي ضخم على مسافة ليست بالبعيدة. وهنا انكشفت الحكومة، وأصبحت الأزمة عالمية.
في فترة حجب الخبر، حدثت كوارث أبشع من كارثة الانفجار حتى. في ذلك الوقت اصطفّ الناس ليشاهدوا المفاعل وهو ينفجر من على مسافة قريبة، حاملين معهم الأطفال والرضَّع. وكانوا هؤلاء أول من استقبل رماد الحريق، وهؤلاء أول من تأثروا بالإشعاع. ولاحقًا أصبح مكان الاصطفاف يحمل اسم (جسر الموت). ولم يقتصر الأمر على أهل المدينة فقط، بل طالت الأزمة الكوكب كله سريعًا. منذ احتراق المفاعل، وحتى إخماده وفضح السر للعالم كله، تحللت كميّات مهولة من المواد المشعة في الهواء. لتدخل بدورها في كل شيء تقريبًا: المياه، التربة، الأطعمة، الحيوانات، البشر، وكل شيء. أصبحت المواد المشعة جزءًا لا يتجزأ من الأنظمة البيئة على كوكب الأرض. والتأثيرات ليست لحظية؛ فالجزيء الواحد من المادة المشعة يحتاج ما يقارب 24 ألف سنة ليتحلل.
وبجانب من تأثروا بالرماد على جسر الموت، كان من الناحية فخر لينين الزائف يسحق رجال الإطفاء عند المفاعل. في ذلك الوقت هرعت قوّات المطافئ إلى منطقة المفاعل الرابع، معتقدة أن الأمر كله مجرد حريق كبير بعض الشيء ليس إلا، وسيتم إخماده لا محالة. ذلك الاعتقاد جعلهم يجابهون الحريق عن قرب، فكلفهم ذلك حياتهم لاحقًا. الفخر الزائف بأن كل ما يحدث عبارة عن حادث عارض في المنظومة السوفيتية، كان سببًا في مقتل المئات في أيام، الآلاف في أسابيع، والملايين في سنين.
في نهاية المسلسل يطرح علينا العالم ليغاسوف سؤالًا مهمًا: ما هو ثمن الأكاذيب؟ – ? What is the cost of lies
فما هو ثمنها فعلًا؟ هذا سأتركه لك.
شيرنوبل يحدث كل يوم، لكن لا ندرك
هذا الحادث الأليم يحدث كل يوم، يتكرر كل ساعة، بل ويتردد على المسامع والآذان كل لحظة.
المميز في هذا المسلسل هو أنه حوَّل الحادث من نقطة سوداء في تاريخ الاتحاد السوفييتي، إلى أزمة وجودية تطرح سؤالًا قاتلًا: لماذا يدمر الإنسان نفسه؟
أي أن الاستفهام الرئيسي هو عن قابلية الإنسان على تدمير نفسه بنفسه. إذا نظرنا بدقة لدوافع الحكومة السوفيتية، سنجد أنها بالكامل مبنية على الاعتزاز بالأيديولوجية السياسية، والتيقن التام من سداد الرأي وصحة القرار بغض النظر عن أي شيء آخر. وبالرغم من مرور سنين وسنين على الحادث، إلا أنه يمكن إسقاط محاور شيرنوبل على ما يحدث في حياتنا كل يوم، وحتى فناء البشرية.
الناس حتى الآن تتفنن في إيذاء الآخرين وسلبهم حريتهم بكل طريقة ممكنة، والدافع ماذا؟ أجل، بالضبط: الأيديولوجية.
شيرنوبل يحدث عندما يُجبرك المعلم على طاعته وهو مُخطئ، شيرنوبل يحدث عندما يصيغ الحاكم دستورًا يسجنك إذا قررت أن تصير إنسانًا، وشيرنوبل يحدث عندما تتعرض للتحرش في الشارع بغتة. كل فعل من تلك الأفعال يبدو من الخارج ذا تأثير محدود للغاية، لكن الواقع هو العكس. إجبار المعلم لك سيجعلك تكره كل المعلمين لاحقًا، فبالتالي تبغض العلم والعلماء. تقييد الحاكم لحريتك سيُجبرك على محاولة الهرب من الوطن في أسرع ما يمكن، بل والتنكيل به عندما تخرّج. والتحرش الذي طالك اليوم، من الوارد أن يصبغ روحك بالأسود مع الوقت.
يمكن إسقاط شيرنوبل على كل شيء وأي شيء. هذا المسلسل ليس مجرد عمل فني تشاهده ثم تمارس أعمالك في روتينية معهودة، لا. هذا المسلسل عبارة عن تجسيد لنزعة البشرية نحو تدمير ذاتها. هذا المسلسل هو لوحة مرسومة بداخلها مراحل التطور الإنساني كلها، لكن بمنتصفها يوجد رز تدمير ذاتي كبير، بحجم ثقبٍ أسود.
فإذا اقتربت منه، سيُدمر الحضارة، ويغمر الكون بالكُدرة.