(مزايا التشدد الديني)
أنيس فوزي
في الأزمات والحروب والخطوب الكبرى تنشأ الخلافات والعداوات في كل أواصر المجتمع والمحيط المشحون، وتتخذ المنافسة سواء أكانت على السلطة أو حتى على الرياضة شكلاً من أشكال الصراع، يمكن القول إن الحروب بالذات تكشف كل شيء، النوايا والمواقف والمبادئ والآراء، وتخرج كل مضمور ومدفون.
لكن الأمانة تحتّم عليّ العرفان بجهود المتشددين، فقد تفضّل التشدد الديني علينا بأكثر مما سيقدمه الرخاء والسلام، فبالرغم من أنه وضَعَنا جميعًا في سلّة واحدة، بمختلف أفكارنا وتوجّهاتنا. إلاّ أنّه جمَعَنا تحتَ مبدأ واحدٍ وهو الخطر الذي يواجهه المجتمع من هذا التطرف والتشدد، ووحّد كلمتَنا ورأيَنا وثوابتَنا تجاه الوطن.
لا يفرّق المتشدد بين مدارس الحداثة المختلفة والخائضين فيها ولا بين اليسار السياسي واليمين السياسي وفروعه المؤسساتيّة ومشاريعه الفكرية، ولا بين الاختلافات الشاسعة في طرق العمل المدني وأدواته وتفاوتها بين جماعات وفرق وصالونات مختلفة لا تنطلق من نفس المبادئ ولا توجد لها أهداف متطابقة، ولا ولا ولا إلخ، لكنه لسوء حظّه وغبائه، أو ربما لحسن حظنا ورحمة السماء بنا، جمعَنا مع بعضنا في أسماء وأوصاف مضحكة ليقتلَنا ويسجنَنا وينفينا ويخرسنا، وليثبت أنه وحده ابن السماء وأننا أبناء الشياطين المفسدين.
جمعَنا في سلّة واحدة لأن العامل -المشترك والوحيد- بيننا هو أننا نتناقش بالعقل، لا بالنقولات المؤدلجة، ونختلف بالمنطق لا بالتعصّب، ونتناقش من الحاضر لا من الماضي، ونخالف بعضَنا بالوُدّ لا بالعنف، لا يرفعُ أحدُنا سلاحًا ولا يكتب الواحد منّا ضد مخالفيه واضعًا المصاحف على أسنّة السيوف، أو حاملاً الحق في محفظته مع نقوده في جيبه الخلفي.
جعلَنا هذا التشدد والتعصّب العنصري ندافع عن بعضنا كعصبة واحدة، كأننا شخص واحد. وهذه المزايا في وجوده يجب النظر إليها بعناية والتعلم منها مباشرة حتى نتفادى في المستقبل أن نحارب بعضنا، فالمستقبل بكل تأكيد لن يحمل معه أيًّا من هؤلاء الإرهابيين. في الوقت ذاته، إن إحدى أكبر مساوئه أنه جعلنا في حالة جماد وركود، بل جعلنا ندافع عن أنفسنا وأفكارنا أكثر مما نقولها. ونضع التبريرات أكثر مما نطرح الحلول. وجعل كلّ تجاربنا ناقصة وكل أعمالنا محكومة بمناخ حسّاس تضيع فيه الجهود هباءً، فلا صرنا أصحاب أفكار حقيقية قادرة على التغيير بالعمل جنبًا إلى جنب مع التنظير، ولا صرنا مقارعين أكفياء ضد التشدد، لأننا مازلنا نرفض السلاح ولا تمثّل أفكارنا تجارة رابحة لدى القوى السياسية، التي مازالت تستعين بالدين والتقاليد لتنتصر في حربها وتبني مجدها، لا لتبدأ التغيير والتنوير ولا يهمّها أصلاً.
جعلَنا المتشددون ندافع عن الكتب السيئة، والحقوقيين الأقل خبرة، والمنظمات المدنيّة البسيطة، والناشطين الذي لا يملكون أي نوع من الثقافة، والمدنيّين الذين نختلف معهم، فقط لأنهم لا يحملون سلاحًا، ولأنهم يتعرضون للظلم والعنف تجاه ما يفعلونه ويقولونه.
إلاّ أن المزايا غطّت على العيوب، بل إن العيوب في حد ذاتها تبدو مزايا، فقد جعلنا الإرهاب رحماء فيما بيننا، نخاف على بعضنا ونساند بعضنا البعض، في مشهد قد لا يتكرر بسهولة، أو ربما لن يتكرر أبداً، فما هو قادم سيكون أشرس وأكثر خطورة، وأتمنى أن نحفظ درس السلفيين والراديكاليين وبذرتهم الضالّة، وأن نتحلّى بهذا الشعور النبيل والوطني والأخلاقي مدى الحياة.