مقالات مختارة
محنة الجوائز الأدبية
نشر في: 02/05/2019 - 14:15
سوسن الأبطح
كادت الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، تتحول إلى بوصلة للقراء. بديناميكيتها التي اكتسبتها طوال أكثر من عقد، كانت تشق طريقها على غرار الجوائز الكبرى، كمنصة لتتويج أفضل الروايات الصادرة بالعربية.
منذ انطلاقتها الأولى، دار حولها لغط كبير، إنْ لجهة حسابات شخصية لأعضاء من لجان التحكيم، أو لتأثير أشخاص من خارج اللجان على نتائج عملها، وهذا في البدايات متوقع. الروائيون المرشحون أنفسهم، بمحاولاتهم الدائبة للبحث، عن منفذ لتعويم أنفسهم وبطرق ملتوية، بقوا باستمرار، جزءاً كبيراً من المشكلة. كان يفترض أن يتم تقويم الأخطاء سنة تلو أخرى، كما يحدث في أي مكان في العالم. لم يسبق لجائزة أدبية أن انتقدت وهوجمت كما «البوكر»، وبقيت المشتهى والمراد، كونها تمكنت من الترويج لرواياتها الفائزة وزيادة مبيعها، والتعريف بالأدباء الذين اختارتهم. عشرة آلاف دولار للفائز على اللائحة القصيرة، وخمسون ألفاً للفائز الأول ليست هذه أدسم المبالغ المعروضة ليكافأ بها الأدب العربي. مقارنة بجائزة «سلطان العويس» أو «الشيخ زايد للكتاب»، تبقى «البوكر» متواضعة، لكن ما يهم الأديب بالدرجة الأولى هو أن يُقرأ أكثر، في منطقة شحّ فيها المقبلون على الكتاب حدّ الندرة.
في فرنسا حيث تقاليد الجوائز راسخة منذ مطلع القرن الماضي، وعددها يناهز الألفي جائزة، يصل مبيع الرواية الفائزة بـ«الغونكور» إلى ما يقارب نصف مليون نسخة. في أميركا الكتب التي تتوجها الجوائز تبيع بالملايين. هل يجرؤ ناشر عربي على إخبارنا بعدد النسخ التي يبيعها من رواية تربعت على العرش؟ هل بمقدور إدارة البوكر أن تعلمنا بعدد النسخ التي تباع بعد ترجمة الروايات الفائزة إلى الإنجليزية أو أي لغة أجنبية أخرى؟ ثمة نقص في الشفافية وغياب للأرقام، يتسببان بضبابية في الرؤية، ووقوع في أوهام، وبناء على افتراضات وأخيلة، وصراعات غير لائقة بين أدباء على مجد كرتوني بائس. الأرقام من دون شك هزيلة، إن قيست بعدد الذين يجيدون العربية في هذا العالم. الأمر يصبح مفجعاً حين نعلم – ونحن نستنفد طاقاتنا، في البحث عن سبب تراجع الكتاب عندنا – أن الإحصاءات تؤكد أن الفرنسي الواحد عام 2017 قرأ عشرين كتاباً، بزيادة خمسة كتب عن إحصاءات عام 2015. وكي تعرف كم أن مأساتنا كبيرة، فإن هذه الزيادة المذهلة سببها الإقبال الكبير للجيل الشاب على الكتب. أي أن نهم الجيل الجديد أكبر من قابلية الأهل بشكل ملحوظ. وهو ما يباهي به الفرنسيون، لأنهم نجحوا في تربية أطفال يدركون قيمة المطالعة ويمارسونها بشغف.
ما كان ينقص هذا المشهد العربي الحزين، سوى تسريب اسم الروائية اللبنانية هدى بركات كفائزة بالبوكر هذه السنة، قبل ساعات من الإعلان الرسمي. الأكثر إيلاماً، أن الحرب التي دارت بعد التسريب، وكنت أتابع التعليقات عن كثب، لم تعن على أهميتها، سوى حفنة من المهتمين. أما الحريق الذي اشتعل بعد الإعلان وانقضاء الحفل، فبقي محصوراً في دائرة ضيقة جداً من المثقفين المعنيين، إما مناصرة لصديقة مرشحة أو رغبة في شرح ملابسات ما حدث. ما عدا ذلك، لم نر ردة فعل من قراء غير متضررين شخصياً بما يدور. هكذا تقلّص النخبة من حظوظها، بدل أن تفتح لنفسها أفقاً باتجاه القراء. ولو أن التسريب كان قد حصل قبل سنوات، والجائزة في أوجها، لربما وجدنا أن الصدى أوسع، والنقاش أدسم.
ثمة جدل واسع حول مصداقية اللجان وقدرتها على فلترة الأفضل. وبالعودة مرة أخرى إلى فرنسا، فإن الجائزة الصغيرة التي استحدثتها «غونكور» العريقة قبل سنوات قليلة، وسمتها «غونكور ليسيان» حيث يترك لتلامذة الثانويات (وليس نقاداً) أن يختاروا رواية من مجموعة يتم عرضها عليهم. هذه الجائزة التي هي حصيلة ذائقة الصغار، صارت بوصلة أساسية للقراء وموضع ترقّب أصحاب المكتبات، لأن الكتاب الفائز بها يطير عن الأرفف بأسرع من ذاك الذي ينال «جائزة الأكاديمية الفرنسية» أو«رنودو» أو«فيميان» العريقة، ويبيع أكثر بمئات آلاف النسخ. هذا لنقول إن القارئ ليس أحمق، ولا يعنيه إن جاء اختيار الكتاب الجيد من شاعر أو روائي أو سائق تاكسي. وهو يجرّب مرة واثنتين، وإذا ما رأى الاختيارات هشة، أدار ظهره وذهب يبحث عن منارة أخرى تهديه إلى ما يريد. وبغياب المنارات العربية واحدة تلو أخرى، بعد أن قضى النقد الصحافي على نفسه بالشللية وصار تقديم الكتاب تبهيراً وتمليحاً، وتبادل مجاملات، بدل أن يكون مرافعة صادقة، ولم تتمكن الجوائز على كثرتها من تحسين أدائها وتطوير تقنيات عملها، ترك محبو الأدب لحدسهم يشترون ما طاب لهم، يقعون على عشرات الكتب الرديئة قبل الوصول إلى ما يمتعهم، وهذا من المنفّرات. سوق الكتب في فوضى غير مسبوقة. ومن يدفع ينشر، ومن يروج يشتهر، ومن له أصدقاء يتبادل معهم الدعاية يعرفه الناس. لكنها ظاهرة عابرة لا تبقي زبدة ولا تملأ فراغاً. كنا نقرأ نجيب محفوظ ويحيى حقي وجمال الغيطاني، لأننا نجد فيهم ما يشدنا إلى أعلى، وصرنا نقرأ عشرات الكتب فنشعر أننا نهبط صوب الدرك. الأدب الكبير هو ما يجب أن تبحث عنه الجوائز وتقدمه لقرائها بشفافية لا يشوبها أي شك. فالعقل العربي بات مهجوساً بالمؤامرة التي يراها تأتيه من فوق وتحت، وتحاصره من كل جانب، ويحتاج لساحة واحدة بريئة، يثق بها ويركن إليها ليستكين، وهي إن لم تكن قد بقيت له في الأدب، فقد سدّت دونه السبل، وأظلمت الآفاق وأطبقت.
منذ انطلاقتها الأولى، دار حولها لغط كبير، إنْ لجهة حسابات شخصية لأعضاء من لجان التحكيم، أو لتأثير أشخاص من خارج اللجان على نتائج عملها، وهذا في البدايات متوقع. الروائيون المرشحون أنفسهم، بمحاولاتهم الدائبة للبحث، عن منفذ لتعويم أنفسهم وبطرق ملتوية، بقوا باستمرار، جزءاً كبيراً من المشكلة. كان يفترض أن يتم تقويم الأخطاء سنة تلو أخرى، كما يحدث في أي مكان في العالم. لم يسبق لجائزة أدبية أن انتقدت وهوجمت كما «البوكر»، وبقيت المشتهى والمراد، كونها تمكنت من الترويج لرواياتها الفائزة وزيادة مبيعها، والتعريف بالأدباء الذين اختارتهم. عشرة آلاف دولار للفائز على اللائحة القصيرة، وخمسون ألفاً للفائز الأول ليست هذه أدسم المبالغ المعروضة ليكافأ بها الأدب العربي. مقارنة بجائزة «سلطان العويس» أو «الشيخ زايد للكتاب»، تبقى «البوكر» متواضعة، لكن ما يهم الأديب بالدرجة الأولى هو أن يُقرأ أكثر، في منطقة شحّ فيها المقبلون على الكتاب حدّ الندرة.
في فرنسا حيث تقاليد الجوائز راسخة منذ مطلع القرن الماضي، وعددها يناهز الألفي جائزة، يصل مبيع الرواية الفائزة بـ«الغونكور» إلى ما يقارب نصف مليون نسخة. في أميركا الكتب التي تتوجها الجوائز تبيع بالملايين. هل يجرؤ ناشر عربي على إخبارنا بعدد النسخ التي يبيعها من رواية تربعت على العرش؟ هل بمقدور إدارة البوكر أن تعلمنا بعدد النسخ التي تباع بعد ترجمة الروايات الفائزة إلى الإنجليزية أو أي لغة أجنبية أخرى؟ ثمة نقص في الشفافية وغياب للأرقام، يتسببان بضبابية في الرؤية، ووقوع في أوهام، وبناء على افتراضات وأخيلة، وصراعات غير لائقة بين أدباء على مجد كرتوني بائس. الأرقام من دون شك هزيلة، إن قيست بعدد الذين يجيدون العربية في هذا العالم. الأمر يصبح مفجعاً حين نعلم – ونحن نستنفد طاقاتنا، في البحث عن سبب تراجع الكتاب عندنا – أن الإحصاءات تؤكد أن الفرنسي الواحد عام 2017 قرأ عشرين كتاباً، بزيادة خمسة كتب عن إحصاءات عام 2015. وكي تعرف كم أن مأساتنا كبيرة، فإن هذه الزيادة المذهلة سببها الإقبال الكبير للجيل الشاب على الكتب. أي أن نهم الجيل الجديد أكبر من قابلية الأهل بشكل ملحوظ. وهو ما يباهي به الفرنسيون، لأنهم نجحوا في تربية أطفال يدركون قيمة المطالعة ويمارسونها بشغف.
ما كان ينقص هذا المشهد العربي الحزين، سوى تسريب اسم الروائية اللبنانية هدى بركات كفائزة بالبوكر هذه السنة، قبل ساعات من الإعلان الرسمي. الأكثر إيلاماً، أن الحرب التي دارت بعد التسريب، وكنت أتابع التعليقات عن كثب، لم تعن على أهميتها، سوى حفنة من المهتمين. أما الحريق الذي اشتعل بعد الإعلان وانقضاء الحفل، فبقي محصوراً في دائرة ضيقة جداً من المثقفين المعنيين، إما مناصرة لصديقة مرشحة أو رغبة في شرح ملابسات ما حدث. ما عدا ذلك، لم نر ردة فعل من قراء غير متضررين شخصياً بما يدور. هكذا تقلّص النخبة من حظوظها، بدل أن تفتح لنفسها أفقاً باتجاه القراء. ولو أن التسريب كان قد حصل قبل سنوات، والجائزة في أوجها، لربما وجدنا أن الصدى أوسع، والنقاش أدسم.
ثمة جدل واسع حول مصداقية اللجان وقدرتها على فلترة الأفضل. وبالعودة مرة أخرى إلى فرنسا، فإن الجائزة الصغيرة التي استحدثتها «غونكور» العريقة قبل سنوات قليلة، وسمتها «غونكور ليسيان» حيث يترك لتلامذة الثانويات (وليس نقاداً) أن يختاروا رواية من مجموعة يتم عرضها عليهم. هذه الجائزة التي هي حصيلة ذائقة الصغار، صارت بوصلة أساسية للقراء وموضع ترقّب أصحاب المكتبات، لأن الكتاب الفائز بها يطير عن الأرفف بأسرع من ذاك الذي ينال «جائزة الأكاديمية الفرنسية» أو«رنودو» أو«فيميان» العريقة، ويبيع أكثر بمئات آلاف النسخ. هذا لنقول إن القارئ ليس أحمق، ولا يعنيه إن جاء اختيار الكتاب الجيد من شاعر أو روائي أو سائق تاكسي. وهو يجرّب مرة واثنتين، وإذا ما رأى الاختيارات هشة، أدار ظهره وذهب يبحث عن منارة أخرى تهديه إلى ما يريد. وبغياب المنارات العربية واحدة تلو أخرى، بعد أن قضى النقد الصحافي على نفسه بالشللية وصار تقديم الكتاب تبهيراً وتمليحاً، وتبادل مجاملات، بدل أن يكون مرافعة صادقة، ولم تتمكن الجوائز على كثرتها من تحسين أدائها وتطوير تقنيات عملها، ترك محبو الأدب لحدسهم يشترون ما طاب لهم، يقعون على عشرات الكتب الرديئة قبل الوصول إلى ما يمتعهم، وهذا من المنفّرات. سوق الكتب في فوضى غير مسبوقة. ومن يدفع ينشر، ومن يروج يشتهر، ومن له أصدقاء يتبادل معهم الدعاية يعرفه الناس. لكنها ظاهرة عابرة لا تبقي زبدة ولا تملأ فراغاً. كنا نقرأ نجيب محفوظ ويحيى حقي وجمال الغيطاني، لأننا نجد فيهم ما يشدنا إلى أعلى، وصرنا نقرأ عشرات الكتب فنشعر أننا نهبط صوب الدرك. الأدب الكبير هو ما يجب أن تبحث عنه الجوائز وتقدمه لقرائها بشفافية لا يشوبها أي شك. فالعقل العربي بات مهجوساً بالمؤامرة التي يراها تأتيه من فوق وتحت، وتحاصره من كل جانب، ويحتاج لساحة واحدة بريئة، يثق بها ويركن إليها ليستكين، وهي إن لم تكن قد بقيت له في الأدب، فقد سدّت دونه السبل، وأظلمت الآفاق وأطبقت.