ما هو النقد الأدبي؟*
(بعض المفاهيم الأولية)
بيير ماشري
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
النقد والحكم
ما هو النقد الأدبي؟. بساطة السؤال خادعة. فإذا ما أجبنا، “النقد هو محاولة معرفة عمل أدبي”، نكون قد منحنا مشروع النقد ميدانا للبحث، وليس موضوعا، بحصر المعنى. ومن جانب آخر، فنحن بدون شك نستخدم مصطلح “معرفة” بشكل غير ناضج. ينبغي أن نسأل على معاني واستخدامات هذه الكلمة “نقد”، المستعملة بشكل أكثر حصرا منذ القرن السابع عشر لتعني دراسة الأعمال الأدبية. وحتى تعبير “التاريخ الأدبي” المفضل كثيرا أخفق في أن يكون بديلا من “نقد”. فسرعان ما نشأ الشعور بالحاجة إلى التفريق بين التاريخ الأدبي والنقد الأدبي، ووضعهما كنقيضين. ومع ذلك فإن مصطلح “نقد” مبهم: فهو يتضمن، من جانب، إشارة رفض، تخليا، حكما عدائيا، ويشير، من جانب آخر وفي معناه الأكثر قاعدية، إلى المعرفة الإيجابية بالحدود، دراسة شروط هذا النشاط وإمكانياته. نحن نمضي سريعا من معنى إلى آخر كما لو أن المعاني مجرد أبعاد لعملية مفردة، تتعالق حتى على الرغم من عدم ملاءمتها. “النقد”، باعتباره ميدانا معرفيا، متجذر في هذا الإبهام، في هذا الوضع الثنوي [المزدوج]. الفارق بين الحكم السلبي إزاء النقد من حيث هو إدانة، والمعرفة الإيجابية لما يمكن الاصطلاح، مؤقتا، على تسميته نقد الإنتاج اللاجنسي criticism-asexplantation يتطلب منا القيام بتفريق إيجابي بين النقد كتثمين (تعليم الذوق) والنقد كمعرفة (‘علم، إنتاج الأدب‘). الأول معياري ويستدعي القواعد، والأخير تأملي ويصوغ القوانين. أحدهما فن، حرفية tequnique (بالمعنى المحدد)، أما الآخر فهو علم.
هل سيكون ممكنا ممارسة النشاطين معا؟. أو أنه يتوجب علينا الاختيار بينهما؟. ما الذي تتضمنه مناهج الطرفين؟.
الميدان والموضوع
حينما نقول إن النقد الأدبي هو دراسة الأعمال الأدبية، فإننا نؤسس ميدانا، أكثر مما نعين موضوعا. نكون قد اخترنا فنا أو حرفة، أكثر منه شكل معرفة. مثل هذه المحاولة، يمكن فهمها بسهولة، لأن مجال الحرفة “أعطي” [مسبقا]، على نحو ضروري وتجريبي empirically (أو على الأقل، هذا ما يعتقد). وإذن أصبح من السهولة أن نجد نقطة البداية، العثور على نقطة افتراق، لأن أي نشاط عقلاني يمتلك ميلا طبيعيا لتقديم نفسه مبدئيا باعتباره فنا. إلا أنه في الممارسات النظرية، مثلما يظهر لنا تاريخ العلوم، لايكون الموضوع معطى منذ البداية، ولكنه يكتشف بالتدريج. ما من معطيات معرفية مباشرة، الواقع – بمعنى بالغ الغموض، وغير دقيق – يشكل أفقا فقط. هذا الواقع سيكون بكل تأكيد موضوعا نهائيا لمعرفتنا، ولكن لا يوجد حد مسبق a priori limit وُضِّح، وفرض على مجمل مجال الواقع، ليتسنى للمعرفة أن تكون منقوشة في ذلك الحد. وهنا يجابهنا مقترحان مختلفان: علم ذو ميدان وأيضا ذو موضوع. العلم يبدأ من الواقع ويتحرك مبتعدا عنه. إذا ما طرحنا السؤال: بأية مسافة [يختلفان] أو في أي مسلك [يسيران]، نكون قد حددنا مشكلة مؤسسة شكل المعرفة برمتها. وهذا يعني أن المعرفة الصارمة ينبغي أن تكون مدركة كل الأشكال التجريبية empiricism لأن مواضيع أي بحث عقلاني ليس لها وجود مسبق ولكن تم التفكير فيها حينها. الموضوع لا يظهر أمام العين الفاحصة، لأن التفكير ليس تلقيا سلبيا عاما، كما لو أن الموضوع يطرح مشاركة نفسه، مثل الثمرة المفتوحة، تتكشف وتحتجب بإماءة واحدة. فعل المعرفة لا يشبه الاستماع إلى خطاب متأسس، مجرد تخييل علينا، ببساطة، ترجمته. إنه، بالأحرى توضيح خطاب جديد، تنظيم articulation الصمت.
المعرفة ليست اكتشاف أو إعادة بناء معنى كامن، منسي أو محجوب. إنها شيء ما يجري إنهاضه مجددا، إضافة إلى الواقع الذي يبدأ منه. تذكر أن فكرة الدائرة ليست، بحد ذاتها، مدورة، ولا تتوقف على وجود دوائر فعلية. تذكر أن انبثاق التفكير يؤسس مسافة معينة وانفصالا، بحيث يحيط بمجال الواقع، محولا إياه إلى متناه بجعله موضوعا للمعرفة. هذه المسافة لا تقبل الاختزال. محاولات الشخص التجريبي empiricist النمطية لاختزال النشاط العقلاني برمته إلى شكل عام من الحرفية، نابعة من اعتقاده بأن الموضوع الواقعي هو نوع من الأعمدة تعرض عليه الحقيقة، إنه يتوقع أن المسافة بين الفكر ومواضيعه ستختزل تدريجيا أثناء تقدم المعرفة. الفكر، بهذا الشكل انفتاح، وصف أو ترجمة، تمثل المجهول في المعلوم. حقل المعرفة اختزل في نقطة مفردة: انبثاق الحقيقة. هذه الحقيقة فورية – مجرد نظرة ثاقبة تلقى على نظام الأشياء. مشروع الفكر هو، بطبيعته، تراكم مؤقت يلغي فيه نفسه عندما يعاد تمثله في واقع غير معدل ومفسر فقط. حينما يختزل الفكر بهذا الشكل إلى فن (ربما، مثلما سوف نرى، إلى فن القراءة) يكون قد جرد من تاريخه، ماضيه، ومن مستقبله وحاضره، وقُطِّر إلى وظيفة حرفية وشاملة، إنه يتبخر.
إذا توجب علينا الحفاظ على قيمة الفكر وفاعليته، ينبغي التخلي عن النظر إليه كحيلة أو مناورة مؤقتة، كوسيط أو وسائل نقارب من خلالها الحقيقة والواقع بغرض تملكهما. بكلمات أخرى، علينا، إعادته إلى ذاتيته autonomy المستحقة، أي بُعده السليم (على الرغم من أن هذا لا يرادف الاستقلال independence). علينا الاعتراف بقدرته على توليد الجِدَة لنقل معطياته الأساسية بفاعلية. الفكر ليس تطبيقا، ولكنه مهمة.
هذا التعريف سيقدم لنا، على الأقل، مقولات متميزة: مادة، وسائل ونتاجا. وبتعبير باشلار، علينا تمييز الخصائص الخطابية للمعرفة الحقيقية. هذا القول تمكن صياغته الآن على النحو التالي: إما أن النقد الأدبي فن، يتحدد بشكل تام بوجود سابق لميدانه، أي الأعمال الأدبية، ويعود إلى الاتحاد معها في اكتشاف الحقيقة، وهو بهذا ليس له وجود متميز autonomous. أو أنه شكل معين من المعرفة وهو ذو موضوع غير معطى مسبقا، وإنما هو نتاج النقد الأدبي الذي يطبق على هذا الموضوع جهدا تحويليا محددا. النقد الأدبي ليس محاكاة imitation للمواضيع وليس استنساخا facsimile لها، وإنما يحافظ على انفصال معين أو مسافة بين المعرفة وموضوعها. إذا كان يعبر عن المعرفة في خطاب وتطبق على خطاب، فإن هذا الخطاب ينبغي أن يكون، بطبيعته، مختلفا عن الموضوع الذي قام بإحيائه animated ليتسنى الحديث عنه. فالخطاب العلمي صارم لكون موضوعه المختار معرف من خلال نظام مختلف من الانضباط والتلاحم. هذه المسافة أو الفجوة، التي هي من الاتساع بحيث تحوي استنتاجات منطقية مرجعية authentic discursiveness، هي خاصية تحدد العلاقة بين الأدب والنقد. فما يمكن أن يقال عن عمل ما لا يمكن خلطه بما يقوله هذا العمل نفسه، لأن نوعين من الخطاب متميزين يختلفان شكلا ومضمونا قد جرى فرضهما. وهكذا ينبغي منذ البداية تحديد فرق غير قابل للاختزال بين الكاتب والناقد: ليس الفرق بين وجهتي نظر إلى نفس الموضوع، وإنما الفصل المانع بين شكلين من الخطاب لا يوجد بينهما شيء مشترك. فالعمل الذي كتبه الكاتب ليس هو تحديدا العمل الذي شرحه الناقد. لنقل، مؤقتا، أن الناقد وهو يوظف لغة جديدة، يكشف عن الاختلاف ضمن العمل بإظهاره على أنه آخر بالنسبة إلى نفسه other than it is
* من: بيير ماشري، نظرية للإنتاج الأدبي، ترجمه عن الفرنسية جوفري وول. مع مقدمة جديدة بقلم تيري إيفلتون، ولاحقة جديدة بقلم المؤلف، كلاسيكيات روتلدج 2006.
Pierre Macherey, A Theory of Literary Production, Translated from the French by Geoffrey Wall. With a new introduction by Terry Eagleton and a new afterword by the author, Routledge Classics 2006.