ما كان لي أن أغرس رأسي في رمل الكيبورد
سالم العوكلي
كثير من أصدقائي الكتاب في هذا الوقت ينشرون إدراجات تنتقد كما يقولون (النخبة) التي تؤيد الجيش أو تبرر الحرب، وشعارهم جميعا (لا للحرب) وهو شعار جميل ولكن يحتاج الأمر إلى تقليب بعيد عن أحلام الشعراء والنخبة التي أُشكل جزءا منها وأحترمها، وكم دغدغتني هذه اللافتات الجميلة التي تستنكر الحرب ولابد لها أن تستمر لأنها ليست مطلب نخبة فقط لكنها رغبة كل ضحايا الحروب الذين يعدون بالمليارات فوق هذا الكوكب.
كتبت كثيرا عن الحوار والتسامح وعن ضرورة إصدار قانون للعفو العام قبل أن يصدره البرلمان، ومنذ اليوم الثالث لحراك فبراير وزعت آلاف النسخ من ميثاق الحرابي التصالحي في شوارع درنة وهي ثملة بسكرة التمرد وانحسار النظام، وكان في كل ذلك شبح العنف يلوح وشبح الحروب، لأنها، أو لأن العنف عموما ــ كما يخبرنا التاريخ ــ نتيجة متوقعة بعد نهاية أي حكم شمولي. كنت حالما جدا مثل أصدقائي ولا يمكن العثور بين أحرفي على أي تبرير لعنف أو حرب، غير أني عندما وجدت نفسي في قلب جماعات تتصرف كأنها مكلفة من الله مباشرة بقتل كل من يخالفها، وتعتبر نفسها الفرقة الوحيدة الناجية ولا خيار سوى أن تُستتاب على كفر لم تقترفه، أو أن تلتحق بفرق الإعدام التابعة لها أو تلقى حتفك، حينها تبدلت الأحلام كوابيس في الليل والنهار، بل توقفت تماما عن الحلم وصار حلمي: من سيخلصنا من هؤلاء الذين يشكلون خطرا أكبر من الإيبولا أو الجمرة الخبيثة؟ إلى أن وصلت طلائع الجيش وحاصرتهم ثم قضت عليهم لأستعيد عبر تضحياته من خيرة شبابنا حياتي الطبيعية مثلما استعاد الكثيرون حياتهم بعيدا عن سكاكين هؤلاء الجماعات التي تترصد كل رقبة لا تنحني لهم، وحينها أدركت أنه لا توجد حرب واحدة حتى أقول وأنا في برجي العاجي (لا للحرب) لكن ثمة حروبا عدة؛ بعضها ، ويا للأسف، ضروري، مثل ضرورة إعدام طيور مصابة بالإنفلونزا.
توجد حروب على هذا الكوكب منذ آلاف السنين وليس حربا واحدة كي نقول بهذا الحس الرومانتيكي العالي (لا للحرب) ونبرئ ذمتنا ونأوي إلى قائمة الداعين إلى السلام بكل طمأنينة. ثمة حروب مجانية؛ وحروب مصالح؛ وحروب يقودها مجانين؛ وحروب اكتشف البشر أنها ضرورية وإلا لما كانت الدول خصصت قدرا كبيرا من دخلها لإنشاء الجيوش وتدريبها وتسليحها منذ فجر التاريخ وحتى الآن وإلى أجل طويل، وهذا الأجل ربما سيحدده علم الاستنساخ حين يكون قادرا على توليد أجيال نزعت من جيناتها غريزة الشر والعدوانية التي تجعلنا حتى في قلب السلام ندجج نوافذ وأبواب بيوتنا بقضبان الحديد. أجيال ملائكية قد تخرج يوما من المختبرات وحينها ستصبح الحرب حكاية من حكايات الماضي مثلما نتحدث الآن عن الغيلان أو أكلة لحوم البشر، لذلك كتب الحالمون كثيرا ضد الحرب ورفضوها مبرئين ذمتهم راكنين إلى حلمهم المخملي بأن العالم سيعمه السلام وفق ما بشروا بهم من أوهام وكانوا في الواقع هم من اخترعوا العالم الافتراضي وعاشوا فيه، لكن من يعيشون العالم الواقعي أدركوا أن الحروب ستستمر لأجل غير مسمى طالما الجينة البشرية مازالت تحتفظ بمخزونها من الشرور ومن الرغبة في السيطرة وجمع المال أو تمثيل إرادة الله على الأرض، وغيرها من أسباب الحروب، وهؤلاء الواقعيون هم من فكروا في محاولات تقنين الحروب وتهذيبها طالما لا نستطيع وقفها، مثل المثقف السويسري جان هنري دونانت، الذي هاله ما رآه في معركة سولفرينو التي وصفها في كتابه “ذكرى من سولفرينو” ليكون الركيزة التي بنيت عليها اتفاقيات جنيف التي تقنن حماية حقوق الإنسان الأساسية في حالة الحرب؛ أي طريقة الاعتناء بالجرحى والمرضى وأسرى الحرب، وحماية المدنيين الموجودين في ساحة المعركة أو في منطقة محتلة إلى آخره، وعنها تمخضت اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي نعرف ما تقوم به حتى الآن من جهود لتخفيف وطأة وآلام الحروب، وبالفكرة نفسها تأسس الهلال الأحمر الذي نرفع القبعة لجهوده في ليبيا في هذه السنوات الصعبة.
حين كتب جان هنري كتابه الواقعي كان الكثير من المثقفين والشعراء في أبراجهم العاجية يكتبون ويرددون (لا للحرب) ويظهرون كأناس جميلين مسالمين، لكن، في الواقع، لا علاقة لهم بما يحدث فوق الأرض، ولم يقدموا أي خدمة لمساعدة ضحايا الحروب الأبرياء الذين هم أنفسهم يدركون أن الحروب لن تتوقف طالما أسبابها مازالت موجودة في غرائز وعقول البشر. أنا من هؤلاء الحالمين حد التلاشي في هلام فكري وجمالي متبجح، وكتبت مرة أني أحمي قصائدي من أي مفردة تدل على الحرب أو القتل أو العنف بما فيها حتى مفردة (الشهيد)، فجأة وجدت نفسي في قلب حرب غريبة موجهة من طرف واحد ضد الجميع، يُقتل فيها أصدقائي يوميا بدون ذنب سوى لهوياتهم الوظيفية أو العشائرية، أو بسبب منشور صغير على جدار افتراضي، وتلقائيا وجدت نفسي في قائمة الإعدامات، إما بسبب أني كاتب أو بسبب لقبي في بطاقتي الشخصية، فقبل أن يوجد الجيش من أساسه كانت حرب شرسة قائمة قُتِل فيها الكثير من نخبة بنغازي ودرنة وغيرها من المدن التي انتشر فيها هؤلاء الطغاة الصغار الجهلة، الذين تحصلوا على أكثر الأسلحة فتكا وعلى أموال طائلة، قتلت سلوي بوقعيقيص وعبدالسلام المسماري ومفتاح أبوزيد وانتصار الحصايري وأطفال الشرشاري، وغيرهم من المئات من القضاة والمحامين والعسكريين ورجال الأمن ونشطاء الإنترنت قبل أن يوجد شيء في ليبيا اسمه جيش أو معركة كرامة أو أي مؤسسة أمنية، ووسط هذه المجازر كنت أحمد الله على كل يوم أصحو فيه حيا أو يعود فيه أولادي إلى البيت. كان القضاة ورجال الأمن مختبئين في بيوتهم والمجرمون أصحاب السوابق يتسكعون في الشوارع بالسلاح والأموال الطائلة، يصادرون التبغ ويرغمون الناس على قفل محلاتهم ودخول المساجد، ويفرضون على النساء ارتداء النقاب، ويزرعون لواصقهم في سيارات كل من لا يعجبهم، ويخطفون مقابل فدية، ويضعون الحقائب المفخخة في مطابخ ربات البيوت، ويملؤون الغابة التي كانت متنفسنا بالمقابر الجماعية، ويذبحون على الملأ أمام المساجد، ويقيمون احتفالا كبيرا في المدينة ومواكب فرح بعد أن فجروا سيارتين في مقهى بمدينة القبة راح ضحيتها 50 بريئا من رواد المقهى بينما كانت زفة الاحتفال بهذه المجزرة تمر من أمام بيتي، وفي كل ذلك لم تتوقف الجرافات القادمة من أسيادهم في طرابلس ومصراتة تزودهم بالقتلة والذخائر والسلاح والمال.
كان الألم في الذروة، لكن الألم الأشد قسوة حين هرب هؤلاء القتلة استقبِلوا في عاصمتنا الحبيبة استقبال الأبطال، وأجريت معهم حوارات باعتبارهم ثوارا ضد الثورة المضادة التي تقودها عاصمة ثورة فبراير، بنغازي، وحين كنت أراهم يجلسون على مقاعد وثيرة في تلك الفضائيات كان الوقع عليّ أشد من وقع أي حرب واقعية أو مفترضة. كيف يتحول قتلة النخبة في بنغازي ودرنة وقتلة أصدقائي الجميلين وأقاربي الذين ذبحوا على الهوية إلى أبطال في عاصمة بلدي؟ لذلك حين اقترب الجيش وحررنا من هذا الرعب لن يكون من الأخلاقي أبدا أن أقول لا لهذه الحرب، وكل ما أتمناه أن تكون الحرب الأخيرة، وليس من الأخلاقي أن انتقد أخطاء الجيش بينما أسمع كل يوم عواء سيارات الإسعاف وهي تحملهم على طريق مليء بالمطبات إلى مستشفيات تفتقد لأقل الإمكانيات.
أربع سنوات من التفاوض مع هؤلاء القتلة من أجل حل سلمي لم تفلح، بل أتاحت لهم هذه السنوات أن يقتلوا المزيد من الأبرياء؛ وأن يسرقوا المزيد من الملايين؛ وأن يحضروا المزيد من القتلة غير الليبيين الذين كانوا يفتشون سياراتنا وحقائبنا وجيوبنا، ويأمروننا بتخمير نسائنا بلهجات يمنية وتونسية ومصرية وسواحلية، وكأننا نعيش في ظل احتلال حقيقي، وللأسف كان الدعم والسلاح والمقاتلون والحقائب المتفجرة تأتيهم في جرافات أراها من نافذة بيتي المطل على البحر قبل درنة وهي تمر بشحنات الموت القادمة من المتحكمين في طرابلس ومصراتة. قلت (حروب مختلفة) لأن ثمة حرب على الفساد وحرب على الجريمة المنظمة وحرب على تجارة المخدرات وحرب على قطاع الطرق، وهي كلها متضمنة داخل هذه الحرب الذي لم يكن منها بد، وهي كلها حروب لا أحد يقول لها (لا) لأنها ضرورية من أجل الحياة ومن أجل السلم والسلام. فأنا مع السلام لكن ويا للأسف أحيانا لا وسيلة لتحقيق السلام إلا أن تخوض حربا.
من جانب آخر، يجب أن نتخلص من تعريف (المثقف) النمطي (الكائن الملائكي الجميل الحساس الرقيق القابع في صومعته) لأن مثقفين كبارا وشعراء ومسرحيين ورسامين تطوعوا في المشاركة في الحرب ضد النازية في أوروبا، وكثير منهم لقي حتفه، لأنهم اعتبروها حربا ضرورية ضد فكرة عنصرية عرقية إرهابية ستملأ العالم بالمجازر، وما رأيتهم أنا هنا يقتلون كل مخالف لهم لا يختلفون عن النازية في شيء، فالتعصب واحد سواء كان لعرق أو دين. وحين أكون خلف الكيبورد وأكتب (لا للحرب) بينما القتلة الذين لا يعرفون للحوار أو التفاوض طريقا يمارسون مهنتهم اليومية في القتل والخطف والترهيب والحرابة، فالأمر لا يمت للشجاعة بصلة، بل هو الهروب بعينه من مواجهة الحقيقة. بل الكيبورد في هذه الحالة سوف لن يختلف عن الرمل التي تضع فيه النعامة رأسها.