ما أدراك ما القطط
عمر أبو القاسم الككلي
القطط من الحيوانات التي توطدت صلتها بالإنسان عبر تبادل المصالح!. وتم استئناسه في فترة مبكرة من التطور الحضاري، مع تحول الجماعات البشرية من جماعات متنقلة تعتمد على جمع الثمار والأعشاب الصالحة للأكل إلى جماعات مستقرة قائمة على الزراعة المنظمة.اجتذبت المزروعات الفئران وبعض القوارض الأخرى، وهذه بدورها اجتذبت القطط البرية التي تتغذى عليها. وبما أن الإنسان رأى في فعلها هذا فائدة له، قام بالتقرب إليها عن طريق مدها بمزيد من الغذاء. وتم استئناس القط في نفس الوقت الذي تم فيه استئناس الكلب والشياه والماعز حوالي 11000 سنة قبل الميلاد في العصر الحجري الحديث وتم ذلك في حضارات منطقة الهلال الخصيب.
لكن القط حظي أيضا بالقداسة وصار يعبد تجسيدا لإله، بالذات في مصر في حوالي الألف الرابعة قبل الميلاد.
بداية قُدِّر لمكافحته الحيوانات الصغيرة الضارة بالإنسان وقدرته على قتل الأفاعي والثعابين مثل الكوبرا، واعتبر رمزا للكرامة ورباطة الجأش، ثم عبد كإلهة حارسة وإلهة للخصوبة والأمومة باسم باست أو باستيت.
والقط لم يعبد في مصر القديمة وحدها وإنما عبد في أماكن أخرى من الأرض.
في إحدى قصته يقول الكاتب البريطاني هـ. هـ. مونرو 1870- 1916 (Hector Hugh Munro) المشهور بـ “ساكي Saki” التي عنوانها “مأثرة القط”: “… الكفاح الضاري الذي جرى بين البشر والسنوريات في تلك الأيام الغابرة حين كان النمر ذو الأسنان السيفية وأسد الكهوف يتصارعان مع الإنسان البدائي، حُسم منذ أمد طويل لصالح المقاتل الأكثر امتلاكا للتجهيزات المناسبة (الكائن ذي الإبهام) أما ذرية العائلة المحرومة من الإبهام فقد اقتصر وجود معظمهم اليوم على دنيا الأدغال والبراري المعشبة حيث التواري البديل الوحيد عن الفناء. ولكن[… القط] تجنب بضربة تكيف بارعة خراب جنسه و “افتك” مكانة في العماد من تنظيم الغازي. لأن هذا الحيوان، أشد اللبونات كبرياء، لم يدخل الأخوة البشرية كرقيق أو عالة، ليس كعبد مثل حيوانات الأحمال، طفيليي التجمعات الذليلين مثل الكلب. القط منزلي فقط بقدر ما يوافق ذلك أهدافه، فهو لا يوضع في وجار أو يسرج أو يعاني من أية إملاءات فيما يتعلق بخروجه ودخوله. ذلك أن اتصاله الطويل مع النوع الإنساني نمى فيه فن الدبلوماسية، وما من كاردينال روماني من العصور الوسطى يعرف أفضل منه كيف يتوافق مع محيطه أكثر مما يفعل القط مع صحن قشدة في أفق خياله […] فالحيوان الذي عبده المصريون كإله، الذي وقره الرومان كرمز للحرية، الذي لعنه الأوربيون في حقبة الجهل، العصور الوسطى، باعتباره مطية الجن، أبان في كل العصور عن ميزتين مندغمتين إلى حد كبير: الشجاعة واحترام الذات”.
للكاتبة البريطانية دوريس لِسِّنغ Doris Lessing (1919 –2013) والتي نالت جائزة نوبل للأدب سنة 2007، كتاب طريف بعنوان “عن القطط On cats”. الكاتبة لم تحدد جنس الكتاب، لكنه يمكن أن يعتبر رواية. تتحدث فيه، بناء على ملاحظات دقيقة، عن القطط التي عرفتها وتعاملت معها، فتكشف عن تنوع سلوك القطط ونفسياتها واستراتيجيات تعاملها مع بعضها ومع مالكيها وحتى مع أبنائها، فثمة قطط شجاعة وقطط جبانة وقطط انتهازية وقطط ذات أنفة، وقطط متوددة لمالكيها وقطط لا مبالية، وقطط حنونة وقطط قاسية، وما إلى ذلك.
على الصعيد الشخصي، علاقتي بالقطط محدودة جدا. لكنني أذكر هنا علاقتي بقطتين.
كان بيتنا غير مسقوف، لذا كان سهلا على القطط الدخول إليه والخروج منه. قطة معينة ألفت المكان رغم أننا لم نكن كريمين معها. كانت في غاية الأدب والدماثة، بحيث لا تأكل إلا ما يعطى لها، وقد جربتها مرة بحيث خرجت تاركا أمامها صحن غذائي وبه قطعة لحم، وحين عدت وجدتها على الهيئة التي تركتها عليها ولم تمس الصحن منتظرة ما أجود به عليها.
علاقتي بالقطة الأخرى سيئة. فعند خروجي من السجن سنة 1988، كانت قطة تأتي في ساعة متأخرة من الليل، وتفرغ أمعاءها أمام غرفتي على بلاطة محددة. كانت مصابة بإسهال وكانت رائحة معدوماتها نفاذة جدا إلى حد أنها توقظني من نومي. الغريب في الأمر أن سلوكها ينافي سلوك القطط المعتاد التي تحفر حفرة لتضع بها فضلاتها ثم تردمها. وقد استخدمت هذه الحادثة في قصة لي بعنوان “دعوة على الغداء”، حيث يفترض شخص مصاب بانهيار عصبي “أن القطة لا تتصرف من تلقاء نفسها كقطة. فسلوكها هذا يتنافى مع ما نعرفه من سلوك القطط. الجميع يعلم أن القطط تبحث، عندما تريد التبرز، عن مكان به تراب فتحفر فيه قليلا ثم تتبرز في تلك الحفرة و تغطي برازها. فلماذا تأتي هذه القطة من مسافة يعلمها الله لتتبرز في نقطة محددة لا تتوافر فيها المواصفات و المعايير المعتمدة قططيا؟!. لا بد أن وراء ذلك تدبير محكم ومخطط لا يمكن أن يكون قططيا، اللهم إلا بالمعنى المجازي. الأمر الذي مفاده، ببساطة، أن هناك من درب القطة على ذلك و يبرمج اشتغال جهازها الهضمي و يحضرها إلى مكان قريب من المنزل ثم يطلقها، و بعد أن تنهي” مهمتها” تعود بنفسها”.