ماكرون بين الواقع السياسي والطموح الإمبراطوري
أحمد محمود عجاج
منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية أكَّد الرئيس بايدن أنَّ اجتياح روسيا لأوكرانيا وشيك جداً، وأكد الرئيس ماكرون، بالمقابل، أن الدبلوماسية هي الوسيلة لحل الأزمة، وأرسلت الولايات المتحدة الأسلحة والعتاد، بينما مارس ماكرون الدبلوماسية فقط وعلى أعلى المستويات، لدرجة أنه أمضى خمس ساعات لإقناع الرئيس بوتين باللجوء إلى الدبلوماسية لحل الأزمة الأوكرانية، لكن بلا فائدة!
لا يمكن في السياسة تجاهل التاريخ، وبمراجعته يتَّضح جلياً أن فرنسا منذ تحريرها من النازية، وبدماء الأميركيين، والبريطانيين، نهجت نهجاً مخالفاً لحلف الناتو بقيادة الجنرال ديغول؛ فالجنرال الفرنسي كان يشكك كثيراً في حلف الناتو، ويشكك أكثر ببريطانيا ويعتبرها حصان طروادة أميركيا في قلب القارة الأوروبية. هذا التشكيك الفرنسي نابع من سيكولوجية فرنسية بأنها دولة عظمى، وأنها قادرة على القيادة وبالتحديد في عقر دارها الأوروبي، وبالتالي فإن تنازلها عن هذا الدور لغيرها، لا يمكن قبوله؛ وهذا ما جسده ديغول في سياسته التي تتأسس على تجربة كل الحلول، وعدم الاقتناع بعدم جدواها إلا في حال رؤيتها تفشل واحدة تلو الأخرى، وعندما يصبح الفشل واضحاً يؤكد أنه كان هذا فعلاً عينَ ما يتوقعه. هذا السلوك الفرنسي وصفه وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بأن صانعيه لا يرون الواقع المادي، بل يرونه كما يتخيَّلونه؛ وبالتالي فإن هذا التفاوت سيؤدي إلى الفشل الكبير.
هذا التوصيف للسياسة الفرنسية، فيه شيء من المبالغة، لكنه يتضمن عناصر موضوعية لا يمكن نكرانها؛ فالرئيس ماكرون في الأزمة الأوكرانية، وقبلها من أزمات في منطقة الشرق الأوسط، لم يرَ الواقع على الأرض، بل عمد إلى تشخيصه كما يريد، ومن ثم بدأ بوضع الحلول، فالأزمة الأوكرانية بالنسبة لماكرون ليس سببها اعتداء دولة على أخرى، بل سببها تغييب روسيا عن إطار مقبول للأمن الأوروبي؛ هذا يعني أن حلف الناتو في توجهه أسهم في إخراج روسيا من الإطار الأوروبي، من خلال تقدمه نحو حدودها الشرقية، ومن خلال تشديده على أوروبا الموحدة، التي ليس للروس فيها دور مهم يتناسب مع حجمهم العسكري والتاريخي. ومن خلال هذه الرؤية، المخالفة تماماً للواقع، فإن ماكرون ذهب في حل الأزمة الأوكرانية إلى الدعوة لإعادة النظر في الأمن الأوروبي، قافزاً على الواقع، وإيجاد حل له، بلا مشاركة أميركية فاعلة؛ هذا التوجه كان طبيعياً أن يؤدي إلى تصادم غير معلن مع الحل الأميركي، ويؤدي في الوقت ذاته إلى ترحيب روسي، لكونه كما يرى بوتين، يشقُّ وحدة حلف شمال الأطلسي؛ لذلك كثف ماكرون، تواصله مع الرئيس بوتين، عارضاً عليه حلولاً فرنسية صرفة، غير آخذ بالاعتبار وجهات نظر حليفه الأميركي ولا البريطاني ولا حتى أوكرانيا ومعها دول أوروبا الشرقية الخائفة من التوسع الروسي. وهذا الإهمال للحلفاء يعود إلى طبيعة ماكرون بأنه يمثل فرنسا العظيمة ذات التاريخ المجيد، وأنه بذلك يعيد دورها للساحة، ويثبت أنه قادر على إيجاد دور لدولة تاريخية وعظيمة مثل فرنسا، وعلى قاعدة المصالح المشتركة، دونما الحاجة إلى تضمين حاجات ومطالب الدول الأقل قوة ودوراً في التاريخ.
وهكذا كان اقتراح الرئيس ماكرون في اجتماعاته تطبيق اتفاقية مينسك المنتهكة للسيادة الأوكرانية، أو الحل الفنلندي على أوكرانيا لإرضاء بوتين؛ هذا الحل الأخير يستوجب أن تكون أوكرانيا محايدة، وبذلك لا يمكن للناتو أن يضمها له، ولا يمكن لها أن تنضم إلى تحالفات تخالف مصالح روسيا؛ هذا الحل من عيوبه أنه يراعي مصالح فرنسا وروسيا في إطار تركيبة جديدة للأمن الأوروبي، لكنه يتجاهل القانون الدولي، والواقع السياسي، ومصالح الدول ذات العلاقة مثل بريطانيا وبولندا ودول البلطيق، وكذلك الولايات المتحدة الأميركية. وبما أن هذا التصور يتأسس على الرؤية غير الواقعية أو المتصورة، فإنه لم يكتب له النجاح، بل سرعان ما رفضه الأوكرانيون، وانتقده الأميركان ووصفه البريطانيون بأنه صفقة تفوح منها رائحة اتفاقية ميونيخ، التي أعطت هتلر أراضي من تشيكوسلوفاكيا لثنيه عن عدوانه، لكنه فسر ذلك ضعفاً وقاد العالم إلى حرب عالمية ثانية مدمرة.
هذا الاتهام باسترضاء بوتين لم يُثن ماكرون، بل زاده ثقة بأنه يملك قدرات ذاتية، وأن المواجهة مع روسيا ضارة بالأمن الأوروبي، وأنه في عالم متعددة الأقطاب لا بد لأوروبا أن تكون اللاعب الثالث بعد الصين وأميركا في السياسة الدولية؛ ورأى أن أوروبا من دون إطار أمني جديد يستوعب روسيا، ستكون مهمشة وضعيفة، وغير قادرة على حماية مصالحها.
هذه الرؤية الماكرونية هي في المضمون استرجاع لرؤية ديغول المتخيلة لأعراق السلاف والسلتيك واللاتين، لإقامة أوروبا الموحدة الممتدة من الأطلسي إلى سلسلة جبال الأورال. وفي هذه الرؤية يرى ماكرون أنه يغير المعادلة الدولية، وينقذ أوروبا من أن تكون تابعة وغير فاعلة؛ وتوجهه نحو موسكو له مبررات تاريخية، لأن موسكو كانت لمرات عدة حليفة لفرنسا، وهو يؤمن أن بوتين ليس عدواً بل ضرورة للأمن الأوروبي، ومن دون روسيا لن يكون لأوروبا دور مهم في العلاقات الدولية.
مأساة ماكرون أنه في سعيه هذا، نال ثناء بوتين من دون أن يتنازل له الأخير قيدَ أنملة، ولم يستطع قيادة أوروبا، بل عمَّق أزمتها فاتهمه حلفاؤه بشق الصف الأوروبي، وبتجاهل الواقع، ومعاداة أميركا وإضعاف مفاوضاتها مع موسكو، وكل ذلك من دون أن يحقق شيئاً من طموحاته، وهذا ما حمل آخرين على اتهامه بالانتهازية والمفاخرة؛ هذا الاتهام له دلائل في كل مبادراته الاستعراضية سواء في لبنان، أو في أفريقيا، أو ليبيا وغيرها؛ ومع ذلك يمضي قُدماً غير آبه، مقتنعاً أنه يمثل فرنسا العظيمة، وأن فرنسا لا تقبل تحالفاً، أو تجمعاً، ما لم يكن لها فيه دور الريادة.
قد يكون ماكرون مغروراً أو قد لا يكون، لكن يحاول أن يصنع التاريخ، والتاريخ سيسجّل، كما يتوهم، اسمه في سجل العظماء.