ليبيا وظاهرة المجالس الإثنية
د. جبريل العبيدي
ظاهرة انتشار المجالس العرقية أو «الإثنية» في ليبيا بعد فبراير (شباط)، هي ظاهرة خطيرة تعبّر عن افتعال أزمة هوية غير موجودة أصلاً، وتعتبر ظاهرة ضارة بالوحدة والشراكة في الوطن، التي تتطلب أن يكون حق المواطنة مكفولاً للجميع، وليس حكراً لفئة أو جماعة دون أخرى، مما يجعلنا نرفض أي دعوات لتشكيل كيانات أو مجالس عليا أو حتى سفلى إثنية، تجعل منها أقلية متقوقعة داخل الوطن، تكون مهداً لتفتيت الوطن وتقسيمه بحجة المعاناة من التهميش، أو الخصوصية الإثنية، التي هي في الأصل قد تكون عانت مثل غيرها الظلم والتهميش والإقصاء، في ظل الشمولية والنظام الاستبدادي وحتى المركزي الإداري.
شرعية الدول المدنية والحديثة يجب أن تقوم على فكرة ضمان الحقوق السياسية للفرد، ولا ينبغي للدولة أن تعترف بالهوية الإثنية كما يرى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس. وفي الحالة الليبية يمكن الاستفادة من مفهوم الوحدة القومية pan – nationalism، لأنه بعد هذا التعايش الطويل الذي عمره آلاف السنين في ليبيا، يمكن القول إن تعدد الإثنيات فيها قد ذاب مع السنين وعبر مرحلة الوحدة الإثنية Panethnicity إلى الوحدة القومية الليبية.
ولهذا يعتبر إعلان المجالس الإثنية بحجة التهميش غير مقنع، لأن التهميش لم يكن مقتصراً وحكراً على أقلية محددة، أو أكثرية بعينها، فجميع ليبيا عانت منه، فنحن شركاء وطن ونضال، ولهذا في اعتقادي أن أسلم نهج للتعايش في ظل الوطن، هو التحرر من أي تعصب قومي أو إثني أو حتى قبلي والتحرر من الشنفونية الإثنية، والابتعاد عن منهج التصادم والتضاد، فالتبو والأمازغن والطوارق، هم جزء أصيل من الوطن، ومكون من مكونات فسيفسائه المتنوعة، والمعيار الحقيقي للاندماج الكامل، والضامن هو تحقيق الديمقراطية، وتضمين حق المواطنة الكامل لجميع أبناء الوطن في الدستور، دون النظر إليهم كأقلية تسكن الوطن، ولكن حين تطالب «البعض بحقوق خاصة، بدلاً من العمل على التعايش، والعيش كشركاء في الوطن».
المجالس العليا أو حتى السفلى هي للمطالبة بمزايا خاصة تحت تسمية «بحقوق» منفردة ومنعزلة، تعتبر انتهاكاً لحقوق الآخرين خارج هذه المجالس، بل وتعبر مدعاة للتشكيك في انتماء الآخرين للوطن والزعم بامتلاك الأرض وتاريخها، واعتقاد «بعض النخب» الإثنية على أنها جزء من الجنس الآري، دفع البعض للاستقواء بالخارج ورهن المصير له.
الحديث بمفهوم خصخصة الوطن، عبر تقسيم جغرافيته ضمن مجالس إثنية والنظر فقط إليه من خلال تلك الجغرافيا في محاكاة للقوميات الأخرى، تسبب في ظهور واستغلال خطاب آيديولوجي مسيس مشحون بلغة إثنية، مفادها أن هذا أو ذاك هو «صاحب» الأرض، بل تطرف بعضهم بالتشكيك في وجود حضارة غيرهم، فهذا النهج والمعتقد الخاطئ والمغالطات التاريخية لا تخدم منطق التعايش في وطن للجميع، فجغرافيا ليبيا هيرودوت ليست جغرافيا ليبيا بعد «سايكس – بيكو»، فالمكان ليس هو المكان، ولا التاريخ، فليبيا زمن هيردوت كانت تطلق على جزء من شمال أفريقيا يشمل تونس والجزائر وجزءاً من ليبيا الحالية، ولا يضم برقة وفزان.
في ظل هذه الازدواجية عند البعض، يصعب تحقيق الاندماج دون توفر اشتراطاته للتعايش، وعلى رأسها التحرر من العباءة الإثنية، والتعايش ضمن وطن خالص لمواطنيه، دونما استثناء أو انتقاء تسوده سياسة التنمية والحرية والديمقراطية، وحقوق الإنسان والمجتمع المدني الديمقراطي، محاطاً ومحفوفاً بروح التآخي والتعايش من قبل الجميع عرباً وأمازيغ وتبواً، بدلاً من محاكاة الوهم والجري خلف السراب، فمن غير المنطقي تغيير الديمغرافيا بعد مضي آلاف السنين، هي بذلك تعرقل الاندماج في الوطن، ضمن معيار حق المواطنة الكاملة للجميع.
والغريب أن العرب الذين يشكلون 96% لم يطلب منهم أحد تشكيل مجلس أعلى للعرب أسوة بهذه المجالس مما يؤكد أنهم يرغبون في الشراكة ولا يرغبون في أن يتعاملوا بمنطق إثني.
ليبيا لن تكون إلا واحدة، ولا بقاء لها إلا واحدة، ومحاولة التقوقع في كيان إثني، والانفصال والتقوقع به، لن تنجح ولن يكتب لها النجاح والاستمرار لفقدانها عوامل البقاء ضمن كيان صغير في وطن كبير، هو في الأصل يتسع للجميع، لن يخدم الوطن أو أي طرف آخر، بل يجعل فئة منه تعاني أزمة هوية، بين إخوة الدين والوطن.