ليبيا تودع أحد بناة الدولة المدنية
د. جبريل العبيدي
الفيروس الشرس «كوفيد – 19» استطاع تغييب أحد رجالات ليبيا المعاصرين، وأحد بناة مشروع الدولة المدنية المغيب في ليبيا، بسبب الميليشيات والتنظيم الإخواني الإرهابي.
رحيل المفكر الاستراتيجي والسياسي الليبي محمود جبريل، من دون وداع المودعين وحضور الأهل والمقربين، إذ حالت جائحة «كوفيد – 19» دون ذلك، فحبست الجميع ومنعتهم من حضور جنازة ودفن رجل ليس كباقي الرجال، خاصة في تاريخ ليبيا المعاصر، فجبريل كان أول رئيس حكومة ليبي بعد سقوط ديكتاتوريات الربيع العربي، وكان رجل وعراب مرحلة ما بعد فبراير (شباط).
شخصية محمود جبريل وحضوره محلياً ودولياً، هو ما أكسب حراك فبراير اعترافاً دولياً بوجود قيادة سياسية ناضجة للحراك الذي أسقط نظام القذافي في ليبيا، فالجميع كان يرى في محمود جبريل نموذجاً للبنة الدولة المدنية والمسار الديمقراطي، ولهذا كان جبريل محفزاً للطمأنينة للمسار والفهم الديمقراطي، وهذا كان واضحاً حتى في رسالة التعزية للسفارة الأميركية في ليبيا، التي جاء فيها «ننضم إلى جميع الليبيين في التفكير في إرث الدكتور جبريل، والتزامه الكبير بضمان مستقبل ديمقراطي وآمن ومزدهر للشعب الليبي».
استطاع جبريل في عهد فبراير أن يحقق انتصاراً كاسحاً في أول انتخابات ديمقراطية ليتحصل على الكتلة الأكبر في المؤتمر الوطني (البرلمان)، ولكنه تعرَّض إلى تحالف الإسلاميين «الإخوان» و«القاعدة» وشراء ذمم بعض المستقلين في المؤتمر، لدرجة أن أصبح رئيس كتلة «الإخوان» في المؤتمر الوطني من المستقلين، مما يعني أن المستقلين كانوا حصان طروادة لتنظيم «الإخوان»، لقلب معادلة الكتلة الأكبر، حيث تسلل أنصار «الإخوان» من خلال عباءة المستقلين ليسقطوا فاعلية الكتلة الأكبر، ليحاصر جبريل ومشروعه الوطني الديمقراطي، خاصة أنه تم إشباع عقول أتباع الجماعة الضالة بالتضليل والتشويه لمشروع محمود جبريل، بعد أن أصبح جبريل عدو «الإخوان» السياسي الأول، فبدأت الحرب القذرة من خلال اتهام جبريل «بالعلمانية» التهمة الجاهزة عند جماعات الإسلام السياسي، فخرج المفتي المعزول للتحريض ضد مشروع محمود جبريل الديمقراطي، رغم أن هذا المفتي المعزول شارك نفسه في الانتخابات التي وصفها فيما بعد بالكفر والباطل.
جبريل لم ينشغل بالرد على تشويه صورته من جماعة «الإخوان»، إلا أنه فضل الرد على تهمة «العلمانية» بالقول: «الإسلام أكبر من أي مفهوم آخر، والليبيون ليسوا بحاجة إلى الليبرالية أو العلمانية كبديل للدين الإسلامي؛ لأن الإسلام، هذا الدين العظيم، لا يمكن استخدامه لأغراض سياسية».
رحيل جبريل ضحية جماعة «الإخوان»، قبل أن يكون ضحية «كوفيد – 19». لم يمنع الانقسام السياسي في ليبيا الليبيين من العزاء في جبريل، فالقائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر عرض عليهم نقل جثمانه إلى ليبيا، وأن يدفن في أرض الوطن، بعد أن قدَّم العزاء لأهله، بينما فائز السراج، رئيس حكومة الوفاق غير الدستورية نعاه في رسالة تعزية، ووصفه بأنه «قامة علمية وشخصية وطنية».
إرث محمود جبريل بدأ منذ كان رئيساً لمجلس التخطيط الأعلى، في آخر عهد العقيد القذافي، الذي جلب جبريل ضمن مشروع الإصلاح الذي أطلقه القذافي الابن، سيف الإسلام، الذي تم اختراقه من جماعة «الإخوان» ليفشل مشروع ليبيا الغد، ويسقط نظام القذافي بل سقطت الدولة الليبية بجميع أركانها معه.
رحيل جبريل مبكراً قبل إتمام لبنات المشروع الديمقراطي في ليبيا، سيجعل من الصعب نجاح أي مشروع ديمقراطي في ليبيا قابل للحياة، في ظل استمرار مشروع دولة الغنيمة والمرشد، التي تنهجها جماعة «الإخوان» وباقي تنظيمات الإسلام السياسي، والتي ترى في ليبيا دولة ترانزيت، وبيت مال لها لتحقيق دولة المرشد خارج جغرافيا ليبيا.
ليبيا لم ولن تعقم عن إنجاب جبريل آخر، ولكن بعد فشل أو إفشال مشروع جبريل الديمقراطي حتى قبل رحيله، وقبل اندلاع حرب أخرى حول إرث جبريل، يصبح الأمر الأهم هو استعادة الدولة الليبية وسيادتها، وخاصة عاصمتها من أيدي الجماعات الإرهابية، وهذا ما يفعله الجيش الليبي الآن، ثم يصبح الحديث عن مشروع ديمقراطي قابل للحياة في ظل سيادة وطنية يحققها الجيش الوطني أمراً واقعياً.