ليبيا بلاد الفرص الضائعة
سالم الهمالي
بكل جدارة استطاع الليبيون أن يجعلوا من الأرض التي يعيشون عليها ويأكلون من ثرواتها بلدًا للفرص الضائعة، بالرغم من أن التاريخ ترك لهم سيرة نادرة في الجهاد ومحاربة المستعمر والجغرافيا أعطتهم موقعًا استثنائيًا على البحر المتوسط يزخر بثروات هائلة من النفط والغاز وغيرها من المعادن.
استقلال ليبيا كان إحدى نتائج الحرب العالمية الثانية، انهزمت إيطاليا، وأفلح تصارع الدول الاستعمارية أن ينتج الظروف التي هيأت إنشاء المملكة الليبية، بتوافر شخصيات وطنية وإرادة شعبية تمثلت في رفض الانضواء تحت الدول الاستعمارية كما وجد ادريان بيلت خلال تجوال في الأراضي الليبية ممثلا للأمم المتحدة.
خلال ثمانية عشر عاما تحولت ليبيا من أفقر دول العالم إلى دولة نامية، استغلت اكتشافات البترول في نهضة شاملة، تعليمية وعمرانية واجتماعية، افتتحت مدارس محو الأمية وشيدت المساكن الشعبية وافتتحت الجامعات وأنشئت الطرق التي تربط شمال البلاد بجنوبها. يتندر الليبيون بقصة طريفة، حين زار البلاد الشيخ زايد آل نهيان في بداية السبعينات واندهش مما رآه حتى تمنى أن يكون حال الإمارات كحال ليبيا!!
مفارقة تاريخية، حين اتجه نظام الشيخ زايد إلى الداخل لتطوير بلاده فيما اتجه النظام في ليبيا لحل مشاكل العالم، من فيجي إلى الفليبين مرورًا بتشاد وسيراليون والكنغو وجنوب أفريقيا وزامبيا وتونس والبوليساريو واليمن وظفار ولبنان والسودان وأوغندا وأيرلندا ونيكاراغوا وووووو… بالطبع فلسطين العربية !!
بعد أكثر من ثلاثة عقود من الكر والفر، استيقظ النظام على حالة البلاد البائسة، محاولًا تلافي أخطاء الماضي بمشروع جديد من صلبه أسماه “ليبيا الغد”، تولى حلحلة ملفات أرهقت البلاد خارجيا وداخليا، فتجاوز آثار لوكربي ومحاولات امتلاك سلاح نووي إلى نهضة عمرانية واعدة وانفراج إعلامي وتصالح مع أعدائه، وعلى رأسهم تنظيم الإخوان المسلمين. أفرج عمن في السجون وأعاد أغلب من يعيشون في المنافي بين سويسرا وألمانيا وبريطانيا وأمريكا ودول الخليج العربي واليمن.
مراجعات تلك التنظيمات صدرت في كتاب أُشهر ببهرجة إعلامية، ظهر فيها زعيم ليبيا الغد وأهم من حارب النظام من تنظيم الجماعة الليبية المقاتلة. الصورة كانت توحي بانفراجة، لكن يبدو أنها كانت كالحمل الكاذب.
أربعة عقود من الزمن، تأخرت فيها البلاد كثيرا، مصارف بأنظمة ديناصورية ومستشفيات لا تستطيع مواكبة احتياجات المرضى الذين تقاطروا إلى مستشفيات تونس والأردن ومصر، ونظام تعليمي واسع لا يجد خريجوه فرصا في سوق العمل الراكدة.
اشتراكية الدولة في الثمانينيات من القرن الماضي أرهقت كاهلها، فترهلت بحمل ثقيل بمئات الآلاف من الموظفين، وجدوا أنفسهم يبحثون عن ملفاتهم في “المكب”.
ما لم يكن في الحسبان، هو موجات ما أسمته الصحافة الغربية “الربيع العربي”، الذي جرف أمامه الأنظمة في تونس ومصر واليمن، لكنه في ليبيا استطاع جرف …. كل شيء
المفارقة التاريخية الثانية، هي الأمم المتحدة (مجلس الأمن)، الذي لم يكن له دور في أحداث تونس ومصر، لكنه كان الأساس لكل ما جرى في ليبيا. قراراته، تحت البند السابع وبتخويل قوات الناتو أفلحت في تدمير هيكل الدولة الليبية، مفسحة المجال لصراع دموي عنيف بين الليبيين، مدعومين من الأطراف الدولية، لتصفية حسابات تاريخية داخلية ودولية واقليمية.
مجلس الأمن الذي اتخذ ذريعة “حماية المدنيين” عندما كان عدد الضحايا بالعشرات، يقف عاجزا اليوم عن الحراك، وآلاف الليبيّين قتلوا، ومئات الآلاف هجروا في عاصمة البلاد ؟!
توالت الفرص تلو الفرص للخروج من دوامة العنف التي تحرق وتدمر ليبيا، نظام أضاع فرصة تطوير البلاد لعقود من الزمن، ومعارضون أضاعوا فرصة التصالح، وأطراف صراع لا ترى إلا حلا واحدا للأزمة يعبّر عن وجهة نظرهم بلا أدنى مجال للتنازل.
اليوم ليبيا في أضعف حالاتها عبر مراحل التاريخ الحديث، قتال وخراب ودمار، وخطاب إعلامي بغيض يحرض على الكراهية، يصدر من أعلى قمة الهرم، يدغدغ عواطف المتعطشين للحرب والتقسيم.
في موسكو وكذلك برلين، اجتمع كبار قادة العالم يناقشون مصير ليبيا والليبيين، لكنهم لم يستطيعوا أن يُجلسوا الأطراف الليبية إلى طاولة واحدة، مثال آخر على توالي الفرص الضائعة…
فأي نذير شؤم أكبر من هذا؟!