لو احتل النازي لندن!
بكر عويضة
ينسجم رفض البشر الخضوع لغطرسة القوة مع نواميس الطبيعة ذاتها، وإلا لانقرض إنسان الغابات لو أنه قَبِل الخنوع أمام الديناصورات، قوة زمانه العظمى، ولما أتى من نسل بني آدم وحواء مَنْ يخترع أشكال فتك بالإنسان نفسه، ربما ولّى ديناصور الغابة الأدبار إزاء بشاعة وحشيتها. بالطبع، عرف المجتمع الإنساني آفة احتلال قوم لمرابع غيرهم منذ نشوء التجمعات البشرية حول الواحات وعلى ضفاف الأنهار، وكان دافع ذلك، على الدوام، الطمع بالماء. لم تتغير دوافع الاحتلال مع تطور المجتمعات. ظلَّ جشع الطرف المستقوي بآلات الدمار هو ظِل هدف جيوشه أينما سارت، بغرض أن تحتل أرض الغير، كي تفرض إرادتها وتحصل على مرامي من سيّروها بأي ثمن.
اتفق العرب منذ قديم الزمن على أن علقم مرارة الشوق لا يعرف مذاقه سوى من كابده بحق. ذاك هو شوق الحبيب والعاشق للمحبوب. بالسياق ذاته، يمكن القول: ما من أحد لم يذق طعم مذلة الاحتلال الأجنبي، يستطيع تخيّل إحساس الذل؛ إذ يسري بمسام من احتل الغرباء بلده. لذا، كثيراً ما كنت ألتمس العذر لمن أسمع منه، أو منها، التقليل من شأن احتلال ما، إذ أتذكر أن كلاهما لم يعرف أي مُحتل، لم يواجه نظره القرف والاستعلاء أمام حاجز عسكري، لم يُصفع أو يُركل في غرفة تحقيق، إلى غير ذلك من أصناف كل تصرف بشع يمارسه المُحتل بلا أي تردد أو خجل.
مساء الأحد الماضي بثت القناة البريطانية الأولى الحلقة الأخيرة من مسلسل درامي حمل العنوان التالي (SS – GB). طوال خمسة أسابيع، عاش الجمهور البريطاني واقع احتلال لم يقع بالفعل لبلده خلال الحرب العالمية الثانية. شكراً للروائي ليونارد سيريل ديتون، أحد ثلاثة روائيين عمالقة – إلى جانب إيان فليمينغ وجون لو كار) – تخصصوا في روايات الجاسوسية، وإعادة تخيّل وقائع التاريخ. المسلسل قائم على رواية وضعها لِنْ (اختصار ليونارد) سنة 1978 أعاد من خلالها رسم مسار أحداث الماضي، متخيلاً أن ألمانيا النازية احتلت بريطانيا. لعل أهم ما قدمته الرواية، آنذاك، ثم عبر عرضها الآن في خمس ساعات مرئية، هو ترسيخ اقتناع أجيال البريطانيين بأهمية الامتنان لجيل المقاتلين منهم، الذين حالوا دون أن يرفرف علم الرايخ على قصر باكنغهام، وأن يحكم هتلر من مكتب ونستون تشرشل.
بينما كنت أتابع قسوة تعامل ضباط الاحتلال النازي المُتخيّل للندن مع اللندنيين وفظائع ما يجري داخل غرف الاستخبارات العسكرية، بدا لي أن ذبذبات تصدر من قاع الذاكرة تغيّر المشهد أمام نظري، فإذا بصورة ضابط إسرائيلي في فلسطين، عراقي في الكويت، سوري في لبنان، سوفياتي أو أميركي أو بريطاني في أفغانستان، ثم أميركي أو بريطاني في العراق، تأخذ محل الضابط النازي المُحتل. أليست قسوة الاحتلال وبشاعته هي ذاتها، أليس ذلّ سيطرة الأجنبي على أبناء أي وطن مُحتل هو ذاته؟ بلى، وتكراراً، لن يعرف مرارة ذلك الهوان إلا من عاشه بالفعل.
سيقال، لكن بعض أوجه الاحتلال أعلاه لاقت ترحيب أغلب أهل البلاد فاستقبلوها بالورود والرياحين. نعم، إنما إلى حين. بالتأكيد، جريمة 11-9-2001 شرّعت أبواب احتلال أفغانستان، إنما بين ما ارتُكب من مآس بحق أفغانيين عزل ليس له ما يبرره. ثم، صحيح أن بطش أجهزة صدام حسين بكثير من العراقيين أنفسهم، ربما فاق في مراحل معينة بشاعة جهاز «إس إس» النازي، ما أتاح لبعض معارضيه فرصة فرض الزعم القائل إن إطاحته لن تتحقق إلا بتدخل خارجي على الأرض. لكن صحيح أيضاً أن أميركا وبريطانيا لم تأتيا للعراق فقط لتحريره من كابوس صدام حسين ومزاعم أسلحة الدمار الشامل. بات معروفاً أن أكثر من بُعد للأجندة اتضح فيما بعد. تصدّر نشرة الأخبار التي تلت حلقة الأحد الماضي من (SS – GB) تقرير أورلا غورين، مراسلة «بي بي سي»، عن معاناة وآلام سكان غرب الموصل بعد تحريره من تنظيم داعش. تُرى، إنْ لم تكن بشاعة الصور التي تضمنها التقرير تمثل وحشية احتلال مارسه زاعماً أنه مسلم بحق مسلمين، وباسم الدين الحنيف، فماذا تكون؟ وإذا لم تُعد مجزرة مستشفى كابل العسكري قبل أسبوعين جريمة احتلال داعشي بحق الإنسانية، فماذا تُسمى؟!. . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ