لماذا يصف ترمب الإعلام بـFake News؟
ممدوح المهيني
حرب نادرة ونارية بين رئيس أميركي وإعلام بلاده لم نرَ مثلها سابقاً. سنوات أوباما كانت في غالبها أيام عسل باستثناء أوقات بسيطة، وبوش الابن تعرض لنقد عنيف، لكنه لا يعادل شهراً واحداً من رئاسة ترمب. وعلى الرغم من العداء المستحكم بين نيكسون والإعلام إلا أن مشهد التلاسن العالق بالذاكرة الذي كان بينه وبين الصحافي دان راذر – واستمر لثوانٍ فقط – يعتبر مهذباً بمقاييس هذه الأيام.
المشهد استثنائي هذه الأيام وربما لن يتكرر، لأن شخصية ترمب من الصعب أن تتكرر. حتى صحافيون يعرفون بالكلام المنمق والحذر فقدوا هدوءهم، بينهم الصحافي الشهير، توماس فرديمان، الذي قال في مقابلة حينما سُئل عن شخصية ترمب “إنه يكذب كما يتنفس”. الكاتب الجمهوري، ديفيد بروكس، كتب محللاً نفسية ترمب قبل أن يصبح رئيساً، حيث وصفها بالمثيرة للشفقة، والتي تعاني من الوحدة والنرجسية، وبعد انتصاره توعد بأنه لن يستمر عاماً واحداً، وهناك مقالات لا تحصى آخرها يردد الفكرة ذاتها: “كيف نتخلص من هذا الكابوس؟!”.
آخر المواجهات كانت في مؤتمر صحافي تاريخي امتد لأكثر من ساعة ونصف، كانت عبارة عن مبارزة دموية خاضها وحيداً، بعد أن قالوا إنه يتهرب من مواجهتهم. لم يتردد ترمب باتهام هذا الإعلام بكراهيته ووصفه بالأخبار المزيفة. في الوقت الذي قام صحافي بتصحيح معلوماته المغلوطة وكشف عن تناقض في مواقفه، فيما يخص طرد مستشاره للأمن القومي، مايكل فلين، حيث قال إن التسريبات الصحافية صحيحة ولكن الأخبار مزيفة.
ترمب انتصر في المرة الأولى عندما وقفت ضده كل الصحف الكبيرة والمحطات الشهيرة، وأعلنت أنه إنسان غير صالح، وحتى غير سويّ ليكون رئيساً لبلادهم. استخدموا كل الطرق الصحافية الناجحة الكفيلة بإسقاطه. أظهروا له تسجيلاً صوتياً فاضحاً، وكتبوا افتتاحيات عاصفة عن مشاكله ونشروا تقارير عن علاقاته بالنساء وإفلاسه المتكرر، وخصصوا صفحات للتحقيق في جامعته التي أغلقت أبوابها. واحدة من هذه القضايا كفيلة بالقضاء على حظوظ أي سياسي، ولكن ترمب ليس سياسياً تقليدياً، وهو لا يعد نفسه سياسياً من الأساس. فهو رجل – كما يصف نفسه – قادم من خارج مؤسسات واشنطن الفاسدة لينظفها.
هذه كانت واحدة من الأساليب الذكية التي استخدمها ترمب، ليردَّ بها على الهجمة الإعلامية الشرسة التي فضلت عليه منافسته هيلاري ابنة هذه المؤسسات، وليخاطب بها قاعدته الشعبية الناقمة على النخبة النفعية. أكثر من هذا فقد استخدم ترمب هجوم الإعلام المكثف كعلامة على تحالف الفساد السياسي والإعلامي في واشنطن ونيويورك ضده. قال مراراً إنه – كأي شخص بسيط وبلا حسابات – يقول ما يؤمن به وبلا تردد أو خوف من محاذير وضعها رجال الإعلام والسياسة. من المؤكد أن هذا الأسلوب نجح مع ترمب، والدليل أنه الآن في البيت الأبيض، وهيلاري تتمشى في الغابات وتكتب قصص الأطفال.
الآن دخلنا فصلاً جديداً من المعركة، بدا واضحاً علاماتها من خطاب التنصيب. الرسالة واضحة: ترمب لن يتراجع. وصف البعض خطابه بالشعبوي والساذج وهناك من وصفه بالخطاب السطحي والخالي من البلاغة التي اعتادها الجمهور مع أوباما. قد يكون ذلك صحيحاً، لكنه كان خطاباً ذكياً بسيطاً ومباشراً لجمهوره، الذي وصل على أكتافه ليكون رئيساً لأعظم دولة في العالم. قال ترمب لهذا الجمهور المحتشد “نقلنا السلطة من واشنطن لكم أنتم أيها الشعب”. وهتف بعدها الجمهور منتشياً. ماذا يهم بعدها إذا غضبت منه شبكة السي أن أن، أو صحيفة النيويورك تايمز اللتان هما بالنسبة لمناصريه عدوتان له ولأميركا.
لماذا يردد ترمب بشكل مستمر أنه إعلام غير أمين، أو أنه مصدر الأخبار الزائفة. يعيد ذلك تقريباً في كل تغريدة، وهناك سبب وجيه وهو ليس أحمق كما نعتقد، متسائلين عن ترديده الشيء نفسه مرة بعد أخرى. العكس هو الصحيح، فترمب يتبع استراتيجية ناجحة عبر ترديد الشيء ذاته مراراً حتى يترسخ في المخيلة الشعبية.
فعلها سابقاً مع المرشح، جيب بوش، حيث قصفه أثناء الانتخابات التمهيدية بوصفه بـ”قليل الطاقة” حتى التصقت الصفة به كجلده. كررها مع منافسه الآخر، تيد كروز، حيث وصفه بـ”الكاذب” حتى تسللت الفكرة إلى عقول الناس. الآن يفعلها ترمب مع الإعلام الذي يعده – محقاً – عدوه الأول والذي يريد علناً إسقاطه. بهذا الأسلوب يلطخ ترمب صورة الإعلام المنحاز ضده بشكل واضح، ويصبح من الصعب تصديق ما يقول عنه حتى لو كان ذلك صحيحاً. وفي كل مرة يهاجم هذا الإعلام “غير الأمين” و”المزيف” ترمب، فهو يزيد من شعبيته ويظهره بصورة المظلوم والمحارب لاستعادة حقوق الناس المسلوبة. ترمب أكثر المستفيدين من هجوم الإعلام عليه، ويبدو أنه يستمتع بالأمر وفي كل مرة يشتم – كما وصفت مؤخراً صحافية زوجته بالعاهرة – فإنه يسجل نقاطاً شعبية في سجله.
وعندما سألوا ترمب لماذا لا يتوقف عن التغريد في توتير، قال عندما يكون الإعلام عادلاً معه. الرسالة التي ينجح ترمب بترسيخها مرة بعد أخرى هي أنه يحارب وحيداً. في المؤتمرات وتويتر والخطابات. وبدون دعم الملايين من مؤيديه سينكسر وستعود واشنطن لعادتها القديمة. معركة شرسة من الصعب أن يتراجع عنها ترمب، لأنها أثبتت نجاحها ومن الصعب كذلك أن يتراجع الإعلام عن موقفه، لأن ترمب هو نجم هذه الأيام ومتابعة أخباره تزيد من شعبيته، وهذا صحيح حيث زادت الاشتراكات والمتابعات للصحف على عكس وصف ترمب بأنها فاشلة، فبعد عهده انتعش الإعلام وأصبحنا نتسمر أمام الشاشات، ونبحث عن آخر التصريحات والتسريبات. والإعلام أيضا لن يتوقف عن الهجوم لأنه لن يرضى حتى يحقق أمانيه برؤيته خارج البيت الأبيض وربما داخل السجن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العربية نت