لــيبيــا..”يكفيك فيك الغوالي”*
سالم العوكلي
قاربٌ يوغل دون شراعٍ في بحر الرمال.. مئذنتان من غروب الطواحين تَبُلانِ ريقَ القلب وتولجان شفقَ الحناء في ليل القفَّاز…أسنان مشط مُتْرَعٍ بالرحيق، مُوغِلٍ في مراوح النَّاخَّةِ، جالبةِ المطرِ العصي من شِدْقِ اليباب.. كانسةُ الرمل عن عتبات الجريد، خاشعةٌ لبرق العِصِّي في لوحة الكاسكا، تغدِقُ على قيظ الراقص رذاذَها المختون.. مُسكِرٌ مُدبرٌ مبهجٌ حدَّ المرارة… مذراة الخريف، ناخَّةُ الحَسَكِ عن زند أبي، تُلقم أسنانَ المعدن ريشَ السنابل، وتنبت في هرم التبن منارةً لكل غاسق.. وحمَ الزغاريد الذائبةِ في ريق العذارى.
لـيبيـا الوثنُ الحميم مشينا في ألواحه إلى بهجة الصليب، وأذبنا في غموضه رغوةَ الجِمَال الخاثرة.. رقَّاشةُ الحجر الحدباءْ، اللاهيةُ عن سمائها، الجائعةُ قرب موائد الموتى، حلّابة القمر أرشيفُ أمي الناهضةِ من نومها باكراً.. تبذرُ ضوءَ الضروع في إناء من خزف.. مساؤها غاطس في البلل، ممدودةٌ على ظهرها ناشفةَ الريق.. ساقٌ إلى كبد السماء وإلى الأرض ساقٌ بهيجةٌ.. شَرَكُ الذئاب اللامعةِ أنيابُها، الشاهرةِ أعضاءَها في مخدع الجدب، وأنا الخارجُ من بطنها الحجري أتلو سورة الكهف، والجاً فَرْجَها الرطبَ دون أخوةٍ ودون قميصْ، نازعاً من عتمة الجُبِّ دلاءَها الموحلة.
أنا المازوخي سليلُكِ، الوالغُ في لهيب فلفلك الحار.. تملئينني خوفاً وأحبك، تُطفئين الضوء قبل اكتمال قصيدتي وأحبك، ترشين الملح على جرحي وأحبك، تُكحّلين بالمِخيَط عيني… تملئين كأسي بنقيع الجوارب وأحبك، تنفخين غبار القبلي في رئتي.. تلصقين آلاف الآذان على جداري وأحبك، تقايضين الخردةَ بسلفيوم باتوس كلِّه.. وأحبكِ.
تصبغين بحبر التُّهم أصابعي وأحبك.. أنا المازوخي القديم الذي باع حلفاكِ لقصائد رامبو ونقش على الكهوف وحوشه العطشى.. عاثرٌ فيكِ حتى الجنون، أكفر بكِ، وألعن سنسفيلك ألف مرة وأكره من يقول: آمين!.
سريرُكِ المُشْرعُ لكل ريح تراكم على شرشفِه مَنِيُّ الكون وضاق بالحلم.. يتكسر القلم في مِبراةِ حزنك، أذرُّ نُخالتَه مع الريح، ومع شخيرك ـ كلَّ ليلٍ ـ أُسرِّبُ غنائي.. أعصر حليب نخلك الأعوجِ فيترنح الغرباءُ في صحوي.
أنا الراتعُ فيكِ منذ الأزل، مضغتُ أعشابك الحلوةَ والمُرةَ، ثقبتُ أعوادَ القصب بنقاط حروفك الخمس فاجتاح خصرَك النغمُ.. ديسُكِ وبري، بُحَّةُ صوتكِ جرحُ البنادير الهائمة، سوطُكِ حارٌّ على جلدي.. ترابك نار “يكفيك فيك الغوالي”*.. أصدقائي المالئين بالهذيان قدحي، الناشرين ألوانهم على حبلي، المارين غداً بزهورهم على قبري.
لستِ الخارطةَ ولا العابرين بأحذيتهم على رعشة الهُدْبِ، لستِ الكلامَ العنيدَ على صدأ الصفيح، ولا الكهرباءَ الساريةَ في ماء الجسدِ.
أنت يا ليبيا.. لمعانُ الورق الأصفر على حَجَرِ السفوح.. رائحةُ الشاي الثقيل في شهوة الجمر، نومُ الأطفالُ خارج الأَسِرَّة في أي ركنٍ، هذيانُ اللون على أرضية المرسم، نُخالةُ الأقلام في جيوب التلاميذ البازغين كلَّ صبحٍ، حكايا جدتي، وضحكُ التين في وجه الخريف.
أنتِ .. لستِ أنتِ إلا أنا.. المقاتل فيك أظافر القبلي، البارُّ بقسوتك.. كلُّ الوالجين غرفةَ نومِكِ آبائي، وكلُّ من حطوا على شاطئك سلالتي… أبناؤك العاقون.. أخوتي العائدين بقميصي مضرجا.. يسرقون ضحكتك وأحبك.. يسلقون أحجارك في مطبخي وأحبك، يذرون رمادك في عيون الشمس وأحبك.. يُحرِّمون فيك عيدَ الحب وأحبك.
*”يكفيك فيك الغوالي” مقطع من قصيدة عامية للشاعر محمد الشلطامي.