مقالات مختارة
لعبة العصفور النّادر
نشر في: 17/08/2019 - 17:51
د. آمال موسى
هناك معطى ما فتئ يتأكد في الحقل السياسي التونسي، وهو أن حركة «النّهضة» تحولت من عنصر فاعل ومشارك أساسي في الفعل السياسي إلى بوصلة يُعدل عليها خصومها قبل قواعدها نقاشاتهم ومعاركهم واستراتيجياتهم السياسيّة.
ويبدو لنّا أنه في هذا المعطى تحديداً تكمن حقيقة دور حركة «النّهضة» التي استطاعت أن تلتهم الحقل السياسي، بطريقتها المباشرة أحياناً، وغير المباشرة في أغلب الأحايين، وذلك لأن هذا المعطى يُظهر مدى تأثير حركة «النّهضة»، التي ليست فقط نتاج شعور النخب الحداثية بخطورتها على الدولة ومؤسساتها ومكاسب الحداثة في تونس، بل لأن هذه النخب باتت على يقين بأن حركة «النّهضة» طرف من الأطراف السياسية المتماسكة.
سنضرب مثالاً على ما ذهبنا إليه، وهو حديث السيد راشد الغنوشي في مقابلة مع إحدى القنوات أدلى بها في شهر مايو (أيار) الماضي، عن أن حركة «النّهضة» ما زالت تبحث عمّا سماه «العصفور النادر»، كي تدعمه في الانتخابات الرئاسية. ومنذ ذلك التاريخ، ولا حديث في المشهد السياسي إلا عن العصفور النادر الذي أصبح يُوجه جوهر التكتيك والمفاوضات السياسية في تونس. بل إن تعبير «العصفور النادر» ملأ وسائل التواصل الاجتماعي ووجّه بوصلة أغلبية المترشحين الجادين للرئاسيّة.
في بداية الحديث عن «العصفور النادر»، كانت هناك شبه مسلّمات لدى الفاعلين في الحقل السياسي التونسي والمتابعين له، وهي أن هذا العصفور هو من خارج سرب حمائم حركة «النّهضة» وصقورها، باعتبار أن تكتيك «النّهضة» منذ عودتها للمشاركة في الحياة السياسية بعد الثورة هو التركيز على الانتخابات التشريعية وضمان أكثر ما يمكن من المقاعد البرلمانية، ثم بناء على وزنها البرلماني تضبط التوافقات مع مؤسستي الحكومة والرئاسة. بمعنى آخر، فقد أعطت رسالة منذ عودتها أنها غير معنية بالرئاسة، وأكثر ما يعنيها التوافق معها وأقل ما يمكن من التوتر والعرقلة والصراع.
النقطة الثانية تتمثل في أن حركة «النّهضة» أوّحت بأن عصفورها النادر هو رئيس الحكومة يوسف الشاهد، عندما دعمته في صراعه ضد السيد حافظ قائد السبسي، وعندما شجعته على السيّر ضد إرادة الرئيس الراحل السيد الباجي قائد السبسي والدخول معه في مواجهات، ما أنتج توتراً بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة، ولقد حتم ارتباط التوتر بابن الرئيس وظروف البلاد التي لا تتحمل مشكلات شخصية مصلحية تجاوز هذا التوتر والسيطرة عليه ظاهرياً وشكلياً.
ولكنّ حدث وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي قد فرض تغييرات جوهريّة وعميقة في نظرية العصفور النادر، فتراجعت حماسة حركة «النّهضة» للسيد يوسف الشاهد، خصوصاً بعد شبه انتفاء الأسباب التي كانت وراء تلك الحماسة، بل إن التغيير في هذه النظرية بلغ حدّ العدول عن مقاربة اختيار من ستدعمه من خارج حركة «النّهضة» وقرار ترشيح نائب الرئيس السيد عبد الفتاح مورو للانتخابات الرئاسية المبكرة.
ماذا يعني هذا؟
يعني أن حركة «النّهضة» سحبت البساط من جميع الذين همست لهم سراً أنهم عصافير نادرة ستدعم من ستختاره منهم. كما يعني أنّها رصدت ردود الفعل بإيحاءات ما زالت في طور الدرس، وبتخليها عنهم حالياً يكونون قد خسروا رمزياً وأضاعوا حظوظاً كان يمكن أن تكون أكثر وفرة لو لم يربطوا طموحهم بطعم «العصفور النّادر».
يعني أيضاً أن حركة «النّهضة» فهمت من تهافت وجوه سياسية عدة، لتكون العصفور النادر الذي سيحظى بدعمها، المتمثل في أصوات قواعدها الشعبية في الانتخابات، أن ضعف حركة «نداء تونس» وانشقاقاتها وتحولها إلى أجزاء من الأحزاب جعلها صاحبة الأغلبية النسبية الثابتة، الأمر الذي يسمح لها بالتوسع أكثر في طموحاتها ومحاولة الفوز بمؤسسة الرئاسة.
طبعاً الحركة لم تخطُ هذه الخطوة من باب التهور السياسي، فقد قرأت ملامح المشاركة الشعبية في الانتخابات وعدد المسجلين للإدلاء بأصواتهم، وهي تعرف حصة الأصوات التابعة لها من مجموع المسجلين. لا شيء مضموناً في الانتخابات الرئاسية، خلافاً للانتخابات التشريعية، ولكن مع ذلك فإن انتفاء عدة موانع شجّع حركة «النّهضة» على خوض التجربة.
السؤال الذي نعتبره مهماً بعد قرار مجلس الشورى في حركة «النّهضة» ترشيح السيد محمد مورو أحد مؤسسي الحركة، هو: هل أجادت الحركة التكتيك بهذا التحول النوعي في مقاربتها للانتخابات الرئاسية؟
لنفرض أن مرشح حركة «النّهضة» قد فاز في الانتخابات الرئاسية، هل هذا في صالح الحركة أم أنه سيكون سبب التعجيل في القضاء عليها؟ أليس مبكراً جداً النسج على منوال التجربة التركية، والحال أن التجربة المصرية كانت فاشلة بامتياز؟
هل من صالح الحركة أن تتورط بشكل مباشر في العلاقات الدولية الخارجية، باعتبار أن من صلاحيات الرئيس الإشراف على هذه المسألة، ناهيك أن خطة رئيس الدولة تعني أيضاً أنه قائد القوات المسلحة؟
هل من صالح حركة «النّهضة» أن تضاعف المخاوف منها؟
لقد دخلت حركة «النّهضة» بهذا القرار تجربة لا شيء فيها مضمون، رغم كل الحسابات، والمضمون فيها فقط هو المخاوف والمخاطر. كما أنها بإطلاق لعبة العصفور النادر أكدت براغماتيتها السياسية، وأنها تفهم السياسة كما غيرها؛ مصالح وليست صداقات، وهو فهم سيُحفر في ذاكرة العصافير النادرة التي خاب أملها في دعم حركة «النّهضة» لهم.