لبنان في ظل موت سريري
حنا صالح
من نكب الدهر أن يكون القرار اللبناني الرسمي، معقوداً إلى تركيبة حكومية هجينة لا يصح فيها إلاّ أنها حكومة «الأقوال لا الأفعال»، والبلد يمر في أخطر مرحلة من الانهيار السياسي والمالي والاقتصادي والمعيشي والانكشاف الأمني! فقرر رئيسها المأخوذ بسحر الميكروفون إشغال المواطنين بالخطب، لأن المهمة الحقيقية للحكومة التي يرأس تغطية أهداف مشغليها، بعيداً عن أي نظرة جدية بأن لبنان يمر في زمن انهيار وإفقار ومجاعة وجائحة، وفوق كل ذلك «قيصر» قانون العقوبات الأميركي المسلط الذي لا راد له!
الانهيار يتسارع والحاجة أكثر من ماسة إلى سيولة نقدية، لبدء إطلاق عجلة الإنتاج وتوفير ما يتيسر من الوظائف وفتح أُفقٍ ولو ضيق لاستعادة الطبقة الوسطى بوصفها حلقة الاستقرار وعودة شيء من الازدهار. ولا سيولة إلا من صندوق النقد الدولي، وموافقة الصندوق هي الممر الوحيد إلى دول كثيرة يمكن أن تولي لبنان اهتمامها، لكن أصحاب القرار ليسوا على عجلة من أمرهم… رغم أن البلد يختنق ومهدد بالتلاشي، وهم من استأثر بجنة الحكم كما من هم خارجها، يتقاذفون التهم، وأرقام الخسائر في علم الغيب بعدما باتت وجهات نظر! في هذا الوقت يكتمل الاهتراء العام، وبات لبنان في حالة موتٍ سريري، من الأدلة إلى المجاعة هذا الانهيار الدراماتيكي في سعر الصرف مع تحول السوق السوداء إلى السوق الحقيقية للتداول!
رغم الانحدار إلى القعر أظهرت القوى المتسلطة تمسكاً بكل مندرجات نظام المحاصصة وفساده، وتقاتل لتلافي كأس الإصلاحات، بدءاً بالقضاء المستقل واليوم التشكيلات القضائية جمدها القصر، إلى استئصال المحسوبيات والأزلام وتقليص القطاع العام، والكهرباء والجمارك وسواها وكلها ضرورة داخلية قبل أن تكون شرطاً للجهات الدولية، إن في مجموعة دعم لبنان، أو مؤتمر «سيدر»، ومؤتمرات باريس قبل صندوق النقد الدولي. يريدون بعض المكياج الذي لا يمس الامتيازات التي تمددت إلى مرافق الدولة، ما حوّل الوزارات إلى مصدر شبه وحيد لتمويل التنظيمات الطائفية وثراء رموزها، وتغطية جانب أساسي من إنفاق الدويلة، بعدما انقطع التمويل الخارجي وشحّ المال «الحلال»!
بين المكابرة والعجز عن تقديم أي رؤية، وبعدما مضى على تأليف الحكومة – الواجهة ما يزيد على خمسة أشهر، وليس في رصيدها أي خطوة يُفهم منها أن المقيمين في السرايات خلف الجدران الإسمنتية تعرفوا على البلد وأولوياته الوطنية! عند هذا الحد أطلت دعوة القصر إلى «لقاء وطني» شكلي لا يستعيد ثقة ولا يستنهض بلداً، كأن المطلوب، القفز فوق الانهيار والجوع والقلق وبروز مخاوف من هجرة شبابية نوعية آتية، وتغطية القرارات الخطيرة التي أعلنها نصر الله باسم البلد ونيابة عنه، وسط صمت شمل كل المسؤولين وكل الطبقة السياسية، فوضع لبنان في مواجهة مع الولايات المتحدة، بقراره المضي في الدعم الاقتصادي للنظام السوري، بعدما أملت السلطة السياسية على مصرف لبنان المضي في سرقة المتبقي من ودائع بالدولار لتسليمها إلى «حزب الله» ونظام بشار الأسد! وتحت شعار مواجهة الفتنة وحماية السلم الأهلي، أراد القصر توجيه إنذار إلى الساحات وإلى ثورة تشرين بالانكفاء: ممنوع الاحتجاج! ويتم تجاوز استعراض «الأمن الذاتي» لـ«حزب الله» في شوارع بيروت والضواحي، والرسائل التي وجهها ذلك الحدث!
لبنان اليوم أمام سيناريوهات تهديد مفتعل، من تهديد بفتنة طائفية وحرب أهلية لتكريس ما هو قائم. التهديد بـ«الأمن الذاتي» من شأنه أن يستدرج ما يشعل حريقاً كبيراً، وقد يكون من المتعذر المعالجة وإبعاد الخطر في بلد ليرته محروقة، وودائع مواطنيه في المصارف أكلها الفساد! أما تكلفة الحدود السائبة والاستمرار في التهريب فقد تكون باهظة جداً لأن هذه المسألة قبل «قيصر» كانت تحت المجهر الأميركي فكيف بعده!
بين المشكلة التي يجسدها «حزب الله» المهيمن على كل السلطات، وبين الحكومة – الواجهة التي تلتزم رؤية من شكلها ويتولى تشغيلها، بات المصير الوطني أمام منحى خطير، لأن النهج المتبع فيه تنازل سياسي عن حماية الناس والممتلكات، وهذه أولى أولويات السلطة في أي بلد وفي أي زمان! لكن السلطة ليست غافلة عن كل شيء، فقد أعلنت الحرب على من يحتج أو ينتقد من أوصل البلاد إلى هذا البؤس، فيتم تجريد حملة عاتية أولويتها ملاحقة المقهورين الغاضبين، من متظاهرين سلميين وحتى نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، أما المرتكبون من منفذي الاعتداءات فيتم تجهيلهم لتبقى الأحداث من «فعل فاعل»! نعم الاعتقالات الجارية للناشطين السلميين الذين صُنفوا كـ«بنك أهداف»، واتخذ بعضها طابعاً جماعياً تُفاقم المخاوف، لأنها تُظهر كل الخفة في التعاطي مع جمهور واسعٍ جداً لن يقبل ابتزازه برغيف الخبز، وبات يدرك أن استمرار خطف الدولة يعمق من حجم الأزمات الفردية والجماعية!
لنضع جانباً حكاية «التكنوقراط» والاختصاص، هناك مشكلة عميقة في السلطة التنفيذية القائمة، فالحكومة التي شكلها «حزب الله» ويجاهر أنها حكومته، ليست خارج منظومة الفساد. فإلى غياب الكفاءة السياسية والاستقلالية، هي حكومة تبنت موازنة وضعتها حكومة أسقطتها ثورة تشرين، وذهبت إلى تنفيذ مسلسل إقرار المشاريع – الصفقات، ومحاصصة التعيينات مع ما فيها من تجاوز على القوانين، وتبدو أبرز مهامها إلى تجديد نهج نظام المحاصصة الطائفي، تسهيل تمكين «حزب الله» وإطلاق يده من دون حسيب أو رقيب! وفيما غابت اللازمة عن اعتزامها استعادة المسروق والأموال المنهوبة، تتشدد في ممارسة كل أشكال القمع وتكميم الأفواه كلما ازداد التردي المعيشي واتسعت الاحتجاجات! وبتشجيع حكومي بدأت في السر وانتقلت إلى العلن محاولة خطيرة لمصادرة الإعلام الإلكتروني، والذريعة أنه نقل انتقادات لأداء السلطة وأبرز المواقف المؤيدة لثورة تشرين!
يستغرب الرئيس ميشال عون غياب أطرافٍ وازنة عن لقاء بعبدا اليوم مع أنه يرفع شعار منع الفتنة وتحصين السلم الأهلي! وواقع الحال يقول إنه من الطبيعي أن يستمر التهديد يحاصر سلم اللبنانيين، ما دام هناك سلاح خارج إمرة الدولة، ويتحرك وفق الأجندة الإيرانية، واللافت أن الحوار لن يطرح الاستراتيجية الدفاعية ولا استعادة السيادة. كما أن قانون «قيصر» لن يُقارب في الاجتماع «لأن لبنان لديه ما يكفي من المشكلات»! مثل هذا الطرح معطوف على أداء الحكومة التي ترفع القبضة الأمنية بوجه مواطنين يعانون من تداعيات الانهيار المالي والنقدي والمعيشي، وغياب الحد الأدنى من الاستجابة لمطالب الناس، فإن خطر الانفلات قائم ومعه خطر العسكرة، وربما هناك من يحضر لها ويراهن عليها، وهذا أمر ينبغي وضعه تحت المجهر. وتلافي المأزق من وجهة الثورة يكون بضرورة إسقاط الحكومة التي تتسبب كل سياساتها في تهميش الدولة، وإغراق لبنان لتعويم محور الممانعة!