لبنانيون، مصريون، فرنسيون
سمير عطا الله
صورة اندريه شديد في واجهات المكتبات الفرنسية من جديد: الملامح المشرقية الواضحة، والعينان المتوسطيتان، والتأمل الارتجاعي، في زمن الشعر المنقضي. هذه المرة الشاعرة الفرنسية الجميلة، في سيرة فائقة الجمال، بقلم الفرنكوفونية كارمن بستاني، المشغوفة بفتنة الأدب الفرنسي النسائي منذ مؤلّفها الأول عن كوليت. في 400 صفحة (دار فلاماريون) تعود كاتبة السيرة إلى رفقة ربع قرن مع المرأة التي سحرت باريس شعراً وادباً وصالوناً، كان يشبه إلى حد بعيد صالون مي زيادة الأثير في القاهرة. في كل فترة، يطل وجه ثقافي مشرقي من زجاج المكتبات الباريسية. وتكون اطلالة طاغية، لا عادية. فتلك القبيلة الصغيرة من اللبنانيين الفرنسيين، لا يُنظر إليها هنا على انها “مقيمة في الأرض”، كما في قصيدة بابلو نيرودا، وإنما احتضنت طوال القرن الماضي، على انها جزء ساحر، وعذب، من طلائع الأدب الفرنسي.
وإذ دخل أمين معلوف أكاديمية ريشوليو موشّحاً بالذهب، تحولت اندريه شديد وجورج شحاده إلى شيء من كلاسيكيات ومرجعيات الشعر والمسرح. ويختلف الثنائي شديد – شحاده عن سائر المتألقين في هذه الكوكبة، إنهما ثلاثيّا الانتماء: لبنانيان، ولدا في مصر، وعادا إلى بيروت، وكتبا لباريس، وفيها فارقا حياة من عذوبات الأدب. تروي كارمن بستاني انه عندما عادت اندريه شديد إلى بيروت العام 1942 للالتحاق بزوجها، طالب الطب في الجامعة الأميركية، كان شارل قرم قد قرأ مجموعتها الشعرية الأولى باللغة الانكليزية، “لحاقاً بمخيلتي”. وذات يوم قرع باب منزلها بشدة، فلما فتحت له صرخ قائلاً: “أين هي؟ أين هي؟ هاتوني بها كي اقبّل قدميها”. ثم يتوسل إليها الشاعر والثري، أن تكف عن الكتابة بالانكليزية، وتنضم إلى قبيلته من الكاتبين بالفرنسية.
كانت بيروت آنذاك، مستسلمة بشيء من الخدر إلى الفنون الفرنسية. وفي هذا المجتمع المؤلف من شارل قرم وكميل ابو صوّان وآل اده وجورج شحاده، وغيرهم، بدأت اندريه شديد مسيرتها الفرنسية حتى اليوم الأخير، نادمة دائماً على الاصغاء إلى نصيحة شارل قرم، لأنها في الأساس وحتى النهايات، كانت مفتونة بالشعر الانكليزي: شيلي، كيتس، بايرون، وباقي السوناتات التي ملأت الزمن الشعري حتى هذه المرحلة التي خبا فيها الشعر، ربما خبا في كل مكان من العالم.
لا أعرف مدى المغالاة في القول إن زمن الشعر قد انقضى. أعرف، مثلاً، أنه في أمسيات محمود درويش في باريس، كانت القاعات تمتلىء حتى الابواب. وكانت اكثرية الحضور من الفرنسيين، الذين لا يعرفون كلمة عربية واحدة. غير انهم جميعاً اتوا ليصغوا إلى ايقاع ذلك الأمير الناحل الحامل على كتفيه الضعيفتين، الحنين إلى أرض نفي عنها. وأعرف انه ليس في العالم العربي اليوم محمود درويش أو نزار قباني أو بدر شاكر السيّاب. وليس في باريس سان جان بيرس، أو جاك بريفير. ولو تُليت قصائد بريفير اليوم، لما لقيت من يهفو لأجراسها.
أصغى الفرنسيون إلى ايقاع محمود درويش كما أصغينا مرة في “الندوة اللبنانية” إلى ناظم حكمت، شاعر المنفى التركي، ومنافي الشعراء جميعاً في تلك الأيام. لم نكن نفهم كلمة واحدة مما يقول. واللغة التركية ليست لغة ايقاعية. ومع ذلك سحرنا ناظم حكمت حتى كاد الجميع يردد خلفه كلاماً يهز الناس ولا يفهمه احد. لسبب، أو اسباب كثيرة، تباعد الشعر وتهاوى في كل مكان. ولقد ذكّرنا منح بوب ديلان نوبل الآداب العام الماضي بأن الشعر لا يزال يقاوم الزوال. استغرب كثيرون أن تعطى الجائزة لمغنّي، غير أن الشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي، قال في ذلك إن العرب اعتبرت الشعر غناء ولذا يقال هات، انشدنا مما عندك.
انتمت أندريه شديد ومعظم مهاجري لبنان في تلك المرحلة إلى عالم الطبقة الاريستوقراطية في مصر. عالم ازدهر في العصور الخُديَوية والملكية وشُتّت بعد الثورة. ولم يكن موطن المهاجرين القاهرة وحدها، بل توزعوا في مدن الازدهار الأخرى مثل الاسكندرية وبور سعيد والمنصورة. ولدت اندريه نفسها لأب من آل صعب يضرب المثل بإناقته البالغة، وأم نشرت مجلة “فوغ” صورتها في الثلاثينات على انها من أكثر سيدات العالم اناقة. إلا أن الأبنة لمحت خلف تلك الغشاوة صورة الفقراء والبسطاء في مصر. وسوف تنصرف إلى الرواية، إلى جانب الشعر، من أجل أن تعبر فيها عن تلك الاحزان، وأن ترسم ذلك العالم المتناقض الذي عاشت فيه. فإن ما سمّته “مصر العميقة” كان غير مصر الظاهرة. وظلت تتنازع فيها ايضاً هويتان. وكانت تقول: “لقد جئت من بلدين وليس من بلد واحد، مصر ولبنان”، وشعرت بضيق عندما قال أحد أدباء فرنسا في رسالة إليها: “لقد جئتِ من البلد الذي اعطى اسمه للطائر الخالد، الفينيق”. في حياتها الخاصة، في عطائها، وفي ذاكرتها التي تهاوت في سنواتها الأخيرة، حضرت دائماً تلك الازدواجية في الحنين، مصر ولبنان.
رفيقها وصديقها جورج شحاده، هرب من الإلتزام الضيق إلى الالتزام الكوني. وراح مثل السحرة يبتدع ويخترع أبطالاً متمردين، ولكن في دِفء وعذوبة وبلا سيوف، حتى من خشب. لم يظهر لبنان ولا مصر في شعر شحاده، بل ظهرت أخيلة ملونة تنتمي إلى زمن واحد وحقبة سعيدة، من دون تحديد للمكان إلا في الحالات النادرة، وهو آنذاك، متخيّل ايضاً.
كم هوعدد الناس الذين سيهتمون بقراءة التحفة التي وضعتها كارمن بستاني؟ أندريه شديد، وجورج شحاده، وجورج قرم، وفؤاد غبريال نفاع، وناديا تويني، وفينوس خوري غاتا، اصبحوا شيئاً من ترف التراث الأدبي الفرنسي، تحتضنهم مدارس فرنسا أكثر مما تدّعيهم الحداثة اللبنانية. وفي روايات فينوس خوري مثلما في أعمال اندريه شديد الروائية، لمحات من أعماق النفس اللبنانية المتعبة هي أيضاً، بل أحياناً الغارقة في التراجيديا الشخصية والعامة، التي عصفت بادباء القرن الماضي وهم يعيشون في عالم متمزق، أو عالمين أو أكثر.
خلافاً للنسق الوجداني المشاعري الذي اعتمده كتّاب الفرنسية في لبنان ومصر، اتخذ أمين معلوف، مرة من لبنان وتاريخه المعقّد، ومرة من حكاية اسرته في قرية صغيرة توزعت على انحاء العالم، ومرة من التراث العربي، أو اللاتيني، أو المشرقي، اتخذ لنفسه نمطاً ادبياً يصلح لكل الاجيال وكل العصور وكل القرّاء. ولذلك، حصد أيضاً كل الجوائز الأدبية الرفيعة في أوروبا. بل جرّب مقدرته في كتابة الاوبرا، التي عرضت في سالزبورغ، مدينة “صوت الموسيقى”. ولعل امين معلوف خلافاً لجميع الاسماء اللامعة الأخرى، وبينها جورج شحاده، تجاوز الفرانكوفونية إلى الأدب العالمي حيث ترجمت معظم أعماله إلى أكثر من اربعين لغة، بينها طبعاً لغته الأم. أما سائر الفرنكوفونيين، فقد كتبوا مباشرة بالفرنسية، ونشأوا في بيئة فرنسية اكثر منها محلية. ولم يكن في ذلك خيانة للجذور بقدر ما كان انبهار بألق الأدب الفرنسي، وغواية الانتماء إلى أدب عالمي.
معرض الكتاب الفرنسي الأخير في بيروت، كانت سمته أنه معرض كتاب فرنسي. لقد ضم الفرانكوفونيون آدابهم إلى اللغة، إلى الفن، ولم تعد اللغة تعبيراً عن تميزهم الإثني ضمنها، كما في “بيروت” سمير قصير، أو في زنوجات ليوبولد سنغور، الذي اعطاه والداه اسم اكثر الاستعماريين توحشاً، واعطى هو نفسه أن يكون غرّيد الافرقة السوداء.
أخَذَ الجزائريون على البير كامو، أنه خان أرضه التي ولد فيها، من أجل لغته. ولم يكن في هذا المأخذ أي شيء من الانصاف أو الحقيقة. لم يميز كامو بين الإنسان، فرنسياً أو جزائرياً، ولم يجزىء مسألة الحرية والاستقلال. ولا يغيب أن موقف المثقفين الفرنسيين من ديكتاتورية الاستعمار، ساهم إلى حد بعيد في تأنيبه داخل فرنسا، كما ساهم المعترضون في واشنطن في تعييب حرب الفيتنام.
أعود إلى زجاج المكتبات في باريس وصورة أندريه شديد وملامح المتوسط بالعينين الواسعتين. في كل فترة لنا رف صغير في جناح المكتبات. منذ نحو قرن أو اكثر، يبرز اسم لبناني ما لمرحلة ما. وعلى الدوام يتكرر اسم جبران خليل جبران، مترجماً. ويقول أحد أصحاب دور النشر الصغيرة في باريس، إنه مدين في معيشته، لمهاجر بشرّي العجيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “النهار” اللبنانية