لا نريد إلا ما لا نريد
سعيد ناشيد
ماذا نريد؟ بكل بساطة، وبكل سخافة أيضا، مجمل الإجابة أننا لا نريد إلا ما لا نريد. وهذا كل ما في الأمر الآن. مثلا، نريد أن تتدخل أميركا لكي تحررنا من نير الاستبداد الجاثم على أنفاسنا منذ الأزل، بل نذهب إلى أبعد من ذلك فنحتج عليها إن هي لم تتدخل ولم تأخذ لنا حقنا من طغاتنا طالما هي السيدة الحرّة للعالم الحر اليوم (وهذا ما فعلناه في سوريا مثلا)، لكن ما إن تتدخل أميركا لإسقاط الاستبداد حتى ندين تدخلها في أمننا القومي وشؤوننا الداخلية، ثم ندعو إلى مقاومتها بلا هوادة (وقد فعلناها في العراق مثلا).
طيب، ماذا نريد؟ نريد أن ننفتح على الغرب انفتاحا كاملا لا لبس فيه، بل لا جناح في الانفتاح على إسرائيل نفسها، لكن شريطة أن يفعلها باسمنا ونيابة عن أنفسنا حاكم مسلم حسُن إسلامه، فلا يستغل الدين ببلاهة وغباء كما فعل أنور السادات، بل يستغله بحنكة ودهاء كما يفعل رجب طيب أردوغان اليوم، حيث يتخذ الأداء السياسي شكل نغمتين مختلفتين، نغمة تطرب طبقة العوام، ونغمة تطرب دوائر الحكام، وهذا ما كان.
لكن، إذا ما انفتح على الغرب أو على إسرائيل حاكم لا يغلف الكلام بغلاف الحمية الدينية، رميناه بتهمة العمالة والخيانة، ولا نحتاج في ذلك إلى أي حجّة أو برهان عدا ما تلوكه الألسن وتتلقفه الآذان. قالها عبدالله القصيمي يوما، إننا في آخر التحليل وفي كل الأحوال مجرّد “ظاهرة صوتية”.
ماذا نريد؟ نريد أن نبيد الأقليات على بكرة أبيها لأجل وحدة الدين ونقاء المذهب، وإذا وصلت طائفة منا إلى مربع قلب الهجوم وشرعت في إبادة الأقليات قولا وفعلا، تنكرنا لأعمالها بصوت خفيض، واتهمناها بصوت غليظ بخدمة الأجندة الأجنبية (وقد فعلناها مع داعش مثلا).. كل يوم نحرق العلم الأميركي في المسيرات والمظاهرات، لكننا نشارك كل يوم في قرعة الهجرة إلى أرض الفرص والأحلام (يفعلها يوميا مئات الإسلاميين واليساريين والقوميين).
نستنكر الاختلاط ونستسهل التحرّش، بل نعده إثباتا للذات أمام “القوارير” التي ليست سوى أدوات للاستعمال، ثم نلقي باللاّئمة على “الكاسيات العاريات” و“حبائل الشيطان” و“حطب جهنم”.
نخجل من آداب القبلة وقصائد العشق وفنون الجسد، لكننا لا نستحي من الكلام بالتفاصيل عن “مغيب الحشفة” و“مفاخذة الصغيرات” و“إخراج الريح”. لا نريد سوى ما لا نريد، بل لعلنا لا نعرف أصلا ماذا نريد؟
نريد أن نعيش لكي لا نعيش، ثم نختلف حول شكل الموت الذي نستحقه، ونتناحر لأجل أن ننتقي طريقة حتفنا، قبل أن نلقي باللائمة على الغير في كل أحواله. إن هو تدخّل في أهوالنا اتهمناه بالتآمر علينا، وقد فعلناها مع جورج بوش الابن، وإن هو لم يتدخل كما ينبغي اتهمناه بالتفرج على مآسينا، وقد فعلناها مع باراك أوباما.
لسنا فقط مسلوبي الإرادة، بل بالأحرى لا نعرف ماذا نريد؟ لا نملك الإرادة، ليس لأننا مسلوبو الإرادة بل لأننا بكل بساطة لا نعرف ماذا نريد؟ نطالب بالتدخل الدولي ثم ندين التدخل الدولي في شؤوننا، نريد إسقاط الأنظمة ثم ندين المؤامرة التي قادت إلى إسقاط الأنظمة.
نطلب المقدمات ونتبرأ من النتائج. الذين يعتبرون داعش صناعة صهيونية هم أنفسهم من يتعاطفون معها في ساعات أخرى، أو أنهم يتحولون في كل ساعة من هذا الموقف إلى ذاك دون أدنى شعور بالتناقض. نتبرأ من داعش ثم نندد بمن يتبرأ من داعش. يحرجنا الغلو، ويحرجنا من يحارب الغلو أكثر. نريد أن نبدو متسامحين مع من يبدلون دينهم، لكننا سرعان ما نلزمهم بأن يتستروا ويحجبوا عنا الأمر احتراما لمشاعرنا.
لنا وجهان، وجه يريدك أن تتضامن مع نظام الأسد رغم طغيانه لأنّه ضحية مؤامرة كونية صهيونية أميركية أوروبية ماسونية غربية عالمية (خليجية وهابية)، ووجه يريدك أن تتضامن مع المعارضة المسلحة رغم جرائمها، لأنها ضحية مؤامرة كونية صهيونية أميركية أوروبية ماسونية غربية عالمية (فارسية شيعية). لا يختلف الوجهان سوى في الزائد الذي بين الهلالين. لكن بين الهلالين أيضا شعوب تائهة تترنح على الطريق، فلا هي تريد ما تقصد، ولا هي تقصد ما تريد.
لذلك، قد لا يكون الاندفاع نحو الموت المجاني أحيانا سوى تحصيل حاصل حين لا يعرف الإنسان ماذا يريد؟ إننا في آخر المطاف لا نريد إلاّ ما لا نريد. نريد العيش بوجهين إذن، وجه يطلب المقدمات، ووجه يتبرّأ من النتائج. ما يعني أننا نعيش في الدّرك الأسفل من انعدام المسؤولية. إننا نعيش دون أن نطرح السّؤال البديهي: ماذا نريد بالضبط؟ بل نظنه سؤالا لا يعنينا.
…………..
العرب