لا خيار إلا القطار
غسان شربل
لا تذهب إلى خزائن أجدادك إن دهمك المرض. تلك العقاقير انتهت مدة صلاحيتها. والأمراض كما العلاجات أكثر تعقيدًا.
دع أجدادك يرتاحون في نومهم الشاسع، ولا تتوهم أن عليك المثول يوميًا بين أيديهم، لتظهر عرفانك وولاءك. ولتؤكد أنك صورة طبق الأصل عنهم. وأنهم يتحدثون عبرك. وأنك تستعير حناجرهم.
أنا لا أقول أن تتنكر لهم. أو أن تستقيل من الانتماء إليهم. أو تعتبرهم عبئًا ثقيلا على أيامك. أنا أقصد أنك في زمانك ومكانك. وأفضل وفاء لأجدادك هو أن تكون مخلصًا لأبنائك وأحفادك.
لا تستسلم لهذا الوافد من كهوف القرون الماضية. دوي العيون الخائفة والأيدي القابضة على الخناجر. دوي الحروب العرقية والطائفية والمذهبية. ولا تجتذبك انتصارات أسست على الشطب والإلغاء والترحيل ومحو الآثار. روّض وحش العصبية في عروقك. لا تلتحق بحروب لا تنجب إلا الركام والجنائز والفقر.
لا تهدر العمر في التفجع على «الزمن الجميل». لا جدوى من التحسر على بيروت يوم كانت رائدة ونموذجًا للتعايش والنوافذ المفتوحة. بكاؤك على عاصمة الأمويين لا يوفر رغيفًا لسوري يهاجمه الجوع في خيمة على شفير بلاده. رثاؤك لعاصمة العباسيين لا يرد الأمل إلى العراقي الذي ينظر مشدوهًا إلى بلاده تنتقل من هاوية إلى هاوية. من ويل مستبد إلى ويلات مستبيحين. لا تبدد وقتك في هجاء العقيد وعهده. ولا تسقط في شهوة استرجاعه. الماضي مضى وانقضى. وخير وفاء لأجدادك أن تكون مخلصًا لأحفادك.
القصة بسيطة وحاسمة في آن. العصر يقرع بابك فلا تتهرب. عبثًا تُحكم إقفال النوافذ. لا تهرم في العتمة.
العصر يقرع ويستدعيك. انظر إلى الهاتف النائم في جيبك. كل أخبار القرية الكونية حاضرة فيه. كل هذه الثورات المتلاحقة. آراء السياسيين وأرقام الخبراء. صور الانفجارات وأرقام الميزانيات. قصائد المتنبي ومستجدات عالم الروبوتات.
لا تتوهم أن كل هذه الثورات لا تعنيك. وأنك تستطيع التمتع بثمارها من دون أن تغير أسلوبك وأفكارك وخياراتك. الإصرار على التعلق بعالم الفشل سلوك انتحاري بامتياز.
ولا مبالغة في القول إن الغرق في عالم الفشل والإصرار على الإقامة فيه أخطر من «داعش» وسائر الأمراض لأنه ينجبها ويبررها. الفشل في بناء مدرسة عصرية وجامعة عصرية. الفشل في بناء المؤسسات. الفشل في اللحاق بالثورات التكنولوجية المفتوحة. الفشل في الخروج من زنازين الخوف والاعتقاد أن تسرب هواء العصر يطيح هويتك وطمأنينتك.
العصر يقرع بابك. ثمة حروب جديدة. حروب على الفقر والجهل والتخلف. وللمشاركة فيها عليك أن تتغير وأن تتعلم وتتدرب وتتكيف. كل عصر لا تشارك في صناعته سيقيم على حسابك. وربما تكون ضحيته.
إن القطار سيمر حتمًا. وعليك الاستعداد للامتحان. والالتفات إلى الجنرالات الجدد. جنرالات التقدم والأرقام والابتكار. أنت لست مجرد ابن للخريطة التي ولدت فيها. أنت أيضا ابن القرية الكونية. وقارة «فيسبوك» التي يقترب عدد مواطنيها من المليارين.
ليتك تقرأ ما قاله جنرال «فيسبوك» ومؤسسها مارك زوكربرغ عن اهتمام الشبكة بـ«تعزيز الازدهار والحرية والترويج للسلام وفهم الآخر وانتشال الناس من دوامة الفقر وتسريع تقدم العلوم (…)».
سيمر القطار وإن تأخر. وعليك أن تدفع ثمن تذكرة الصعود إليه. أعرف جاذبية اللغة القديمة. والخوف من مراجعة القناعات الموروثة. والتمزق الذي قد ينتابك. لكن لا بد من أن تصعد كي لا تخسر. والأمر نفسه بالنسبة إلى بلادك.
لا يجوز لحروب الماضي والحاضر أن تمنعك من الانخراط في حروب المستقبل. وهي حروب جديدة يقودها جنرالات جدد. حروب تخاض بالأرقام لا بالأوهام. لا خيار إلا القطار.
أنا مثلك أحب حرير الماضي. وأرض أجدادي. وقصائد المتنبي. وحكايات بغداد. لكن لا خيار إلا القطار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية