(لالي) و (القيقب) والوراد الحزين
سالم العوكلي
أتذكر قرية (لالي) كحلم مشوش يصعب تذكره، حيث ولدت هناك على ضفاف واديها الذي كنا نعتاش من إحدى سوانيه التي يفلحها أبي، ولم أعد أذكر سوى ولادتي هناك، المصادفة المطبوخة على جمر الجغرافيا التي وهبتني هويتي، ولا أعرف هوية هذا الاسم الذي يبدو أن لا أصل عربي أو في اللهجة العامية له، لكني بحثت عنه في الجوجل فظهرت لي بعض النتائج حول هذا الاسم الموسيقي:
ـــ تقع منطقة لالي التي يوجد بها السوق في المدينة القديمة من إسطنبول، حيث يحتوي هذا السوق على عدد من محلات بيع الجملة، وتعتبر هذه المنطقة واحدة من أكثر الأماكن التي يكثر وجود العرب فيها.
ـــ لالي هي مدينة إيرانية تقع في القسم المركزي من مقاطعة لالي في محافظة خوزستان.
ـــ اسم بطلة المسلسل الهندي لالي التي تقوم بدورها الممثلة راتان راجبوت.
يورد موقع (ويب تيب) معنى مفردة (لالي) في بعض اللغات، “كاسم لاتيني يعني الكلمة الجميلة، وفي اللغة اليونانية يعني اللغة الجميلة، أما في اللغة الهندية فيعني الفتاة المدللة. وصاحبة اسم لالي تتميز بشخصية رقيقة وناعمة، حسّاسة بدرجة كبيرة وتحب الاستمتاع بحياتها، كما أنها طموحة”.
لقد مر بهذا الوادي اليونانيون والرومان والفرس والأتراك، لكن الهنود لا علاقة لهم به رغم ميلي لمعنى المفردة الهندي للمكان الذي تنفست فيه الهواء الأول، غير أنه عادة يحدث في حالات الغزو أو عبور الجيوش أن يسمي ضابط أو جندي مكانا في الأرض الجديدة على اسم الحي أو القرية أو المدينة التي جاء منها من باب الحنين، ويلتصق هذا الاسم بالمكان الجديد. توجد في لالي بقايا صهاريج رومانية، ومشروع ري يتكون من عيون الماء والسواقي التي توزع الماء بالحصص على المزارع الصغيرة أنشأه الإيطاليون حيث حفروا قبل عين لالي الرئيسية آبارا لتصفية المياه (الصفايات) وبنوا هيكلا إسمنتيا للعين يتكون من المصب المعدني المتدفق من برج إسمنتي صغير علقت عليه قطعة رخام نحت عليها عبارة ضمنها “أن هذه البئر أنشئت من أجلك وأجل حيواناتك فحافظ عليها” وبتاريخ “1923 العام الثاني من العهد الفاشستي، أما الأحواض التي تتدفق فيها المياه فهي مختلفة الارتفاعات حسب الحيوانات التي تشرب منها إبلا كانت أم ضأنا وماعزا. وما يفيض من المياه يذهب في سواقي تملأ خزانات (أحباس) موزعة على مزارع الوادي.
في لالي الجيرة تختلف، لأن البيوت متناثرة بشكل عشوائي على الهضاب وضفاف الوادي الذي جعلت منه عيون الماء المنبثقة فيه مكانا لمزارع صغيرة يقتات منها أصحابها، وموطنا لأشجار التين والخوخ والعنب التي تشرب من الماء الراشح من السواقي الترابية، المزارع الصغيرة مسيجة بأشجار التين الشوكي الذي يسري الناس فجراً كي يجنوا ثماره قبل شروق الشمس، إذ يروض ندى الفجر أشواكه المؤذية. هكذا تضاريس كانت تجعل بيوت الشعر متناثرة على الضفاف، وفوق التلال الصغيرة، وعبر الشعاب، معظمها مبني قرب الصهاريج الرومانية القديمة، التي أحيلت إلى كهوف نأوي إليها في البرد القارس والأيام المطيرة، وبعض السنوات التي ينزل فيها الثلج، حيث لا تقاوم بيوت الشعر ثقله فتطير أوتادها من الطين المبلول وتهوي على رؤوس قاطنيها.
كنا نرعى الماعز في الهضاب المجاورة ونقترب من الطريق في انتظار عربات أن يلقي لنا الجنود الإنجليز العابرين في سياراتهم العسكرية الضخمة بقطع الشوكولاتة الإنجليزية اللذيذة، وأحيانا نتسلى بمطاردة أكياس الإسمنت الفارغة التي تحملها ريح القبلي من مشروع إنشاء مدرسة لالي التي قرأت فيها سنتي الأولى وما زالت هي المدرسة الوحيدة حتى الآن.
انتقلنا إلى قرية القيقب التي تبعد 4 كم عن وادي لالي (والقيقب نوع من الأشجار يقال أنها كانت تنمو بهذه المنطقة قبل أن تنقرض، ورقتها تمثل شعار دولة كندا المرسوم على علمها .. واسم القرية الروماني القديم أجابس (agapes) وفي صدد بحثي عن معنى هذه المفردة عرفت أنها المرادف الطهراني لمفردة (eros) حيث تعني الثانية الحب الجنسي والأولى الحب العذري، وقد وردت إيروس في النسخ الرومانية الأولى للإنجيل ثم تم تعديلها في النسخ اللاحقة أجابس كمفردة تليق بالكتاب المقدس).
شكلت لي القيقب آنذاك عالما مزدحماً مقارنة بالخلاء الذي كنت أقطنه، كانت تلك الفترة هي بداية إنتاج النفط الذي بدأت لمساته تظهر على حياتنا، فأبي الذي كان يكسب قوتنا من سانيته الصغيرة وما ينتجه قطيع الماعز، تحصل على عمل براتب شهري، كمسؤول عن مراقبة وتنظيف كيلومتر من الطريق العام، واستطاع أخيرا أن يشتري مذياعاً كان يتحلق حوله رفاقه لمتابعة أخبار حرب عرفت فيما بعد أنها حرب ال67 . بينما كان جبرين ورَّاد القيقب الذي وظفته البلدية كي يجلب المياه من العين الشبيهة بعين لالي في وسط القرية إلى البيوت في براميل على حمار مملوك للبلدية، شكل أحد معالمها وهو يسوق الحمار متغنيا بأشعاره الارتجالية التي لا تخلو من مرسلات أيروتيكية في قرية اسمها القديم مرادف للحب العذري.
ظهور النفط الذي شكلت علكة القار السوداء أول علاقة لي معه، بدأت تظهر آثاره على كل شيء، الإيجابي منها والسلبي، وفي صدد تطوير قرية القيقب العمراني، وفي السبعينيات من القرن الماضي، أزالت الجرافات الثورية أشجار السواني القابعة في مصب العين لتقيم بدله حيا سكنيا. في الثمانينيات من القرن الماضي أزالت جرافة هيكل عين المياه الشبيه بهيكلها في لالي، ولم تحافظ الفاشية المحلية الثانية على وصية الفاشية الغازية الأولى المكتوبة على رخامة مثبتة ببرج العين. كما بدأ في بداية السبعينات مشروع حفر أول بئر جوفية في القيقب لتوفير مياه الشرب، وكان (جبرين الوراد) يحدق بحزن في الرافعة العملاقة: إنها هذه المرة مرتفعة كغيمة لا تنضب وتمطر في كل المواسم. وستدخل أنابيبها الرصاصية كل البيوت لتنزف في داخلها ماءها الخالي من الشعر والضحك. كان الوراد لسان حال القرية ومتنفس مكبوتها، وكان الجميع يظهر تسامحاً تجاهه فيما يهذي به من شعر أيروتيكي مرتجل، وكأن لجوءه إلى الشعر تعويذته من أجل أن يمرر كل محرماته، كما كان يفعل الشاعر جاروميل في رواية “الحياة هي في مكان آخر” لميلان كونديرا، حيث كان طفلا يهرب شتائمه إلى أقاربه عبر أبيات شعر موزونة، وكان يشجعه ضحكهم بدل العقاب، فاكتشف سلطة الفن والشعر خصوصا، وأصبح فيما بعد شاعرا غنائيا كبيرا، حملته غنائيته لأن يتناغم مع السلطة المستبدة فيما بعد، لكن لعبة الوراد تختلف فهو موزع سائل الحياة المخلص لكل غرائز الحياة.