كيم «صانع الألعاب»
غسان شربل
إنها سنة المونديال. وشعوب كرة القدم تستعد للموعد الروسي الكبير. استنفار في صفوف عشاق المستديرة الساحرة. تلهفات كروية ومشاعر وطنية وقومية وحسابات تجارية. وابتهجنا ببدايات هذه الحمى التي تستعد لاجتياح القرية الكونية بعد أسابيع. وقلنا نذهب في إجازة من الأخبار السياسية وهي في الغالب مبقعة بالدم.
سيكون العالم جميلاً لو وقع فعلاً في أسر المونديال. لو انشغل بـ«الجنرال» ليونيل ميسي بدل الانشغال بالجنرالات الذين يحطمون المدن ومن عليها. أو انشغل بـ«الجنرال» كريستيانو رونالدو وفتوحاته التي لا تخلف شعوباً من الأيتام والأرامل واللاجئين. أو تركزت أنظاره على دهاء نيمار وثروته ومشاريعه المستقبلية. أو تفرغ لمواكبة صعود محمد صلاح وتحوله رمزاً عابراً للحدود وعلامة تجارية في بلاده.
ولا أريد أن أخفي أنني أحسد أحياناً الصحافيين الرياضيين. يغطون حروباً جميلة ونظيفة. ويحاورون رجالاً لا يقتلون ولا يقتلون. يمضون وقتهم في مطاردة الكرة وعشاقها. لا تعنيهم الشهوات النووية التي تضرب الأنظمة المخيفة والخائفة. ولا تقضّ مضاجعهم الصواريخ الباليستية خصوصاً إذا كانت في أيدي رجال لا يعيرون اهتماماً للحدود الدولية والمواثيق. يغطون انتصارات لا تمزق خرائط ولا تطلق نكبات. يمضون وقتهم في التلصص على أخبار الأندية والمنتخبات والانتقالات والأسعار الخيالية للاعبين ونمضي أوقاتنا ننقل تصريحات التخويف والتضليل وإبداعات الميليشيات.
فجأة اهتزت شباك العالم وأعادتني من إجازتي الكروية. ثمة من هو أبرع من ميسي ورونالدو ورفاقهما. اقتحم كيم جونغ أون المسرح وسرق الأضواء. تسمّر العالم أمام الشاشات. للمرة الأولى منذ الحرب الكورية التي صمتت مدافعها قبل سبعة عقود اجتاز زعيم كوري شمالي الخط الفاصل في المنطقة المنزوعة السلاح بين الشطرين. جاء كيم مصافحاً ومحاوراً وواعداً.
أصيب العالم بقدر من الذهول. الرجل نفسه جعل الدول القريبة والبعيدة تحبس أنفاسها مرات عدة العام الماضي. ابتهج بنجاح التجربة النووية كما يبتهج أب بولادة طفل طال انتظاره. وأشرف بابتسامة استفزازية استعراضية على تجارب لصواريخ باليستية ليطمئن إلى قدرتها على الوصول إلى الأراضي الأميركية. وشاءت الصدف أن تكون بيونغ يانغ في عهدة رجل يصعب سبر نياته والتكهن بانعطافاته وأن تكون واشنطن في عهدة رجل يصعب التأكد من ردود أفعاله. وخشي العالم حين اندلعت حرب الألفاظ المقذعة بين الوافد الجديد إلى النادي النووي والرجل الممسك بزر أقوى ترسانة في التاريخ. صعّد دونالد ترمب ضغوطه على حفيد كيم إيل سونغ. ذكره بالأثمان الباهظة المحتملة وبأن كل الخيارات موضوعة على الطاولة. وكان من الصعب على الرئيس الصيني العثور على أعذار لجاره المتهور. وبدا «الرفيق» فلاديمير بوتين بعيداً ومنشغلاً بتحرير الغوطة وضواحي دمشق. وقد يكون كيم شعر بغياب المظلة أمام العاصفة المحتملة فقرر قلب مسار الأمور خصوصاً بعدما استكمل ترسانته وبر بوعوده لعسكرييه ورفاقه في الحزب.
إذا كان كيم يعني فعلاً ما جاء في البيان الذي أعقب القمة مع رئيس الشطر الجنوبي مون جيه إن، فإننا بالتأكيد أمام حدث تاريخي يغير الصورة والتوازنات ومصير ملايين الأشخاص. فقد أشار البيان إلى اتفاق على مواصلة المحادثات الدولية «بهدف إعلان نهاية الحرب الكورية» والتوصل إلى سلام «دائم» و«راسخ» والعمل من أجل «نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية».
كان الاعتقاد السائد أن كيم لا يملك حلاً غير مزيد من الغرق. أي اقتحام النادي النووي واعتبار القنبلة «بوليصة تأمين». وكان هناك من يجزم أنه سيجلس على ترسانة الصواريخ إلى أن يحين موعد انهيار نظامه بفعل العقوبات الخارجية وتعب مواطنيه من الفقر وكتم الأنفاس وحقن الأطفال بشعارات انتهت مدة صلاحيتها من أيام أبيه. لكن كيم صنع المفاجأة وقلب المسار.
يصعب التكهن بما دار في رأس «الزعيم المبجل» ودفعه إلى تغيير وجهة سيره. هل اقتنع أن تحسين الوضع الاقتصادي مستحيل من دون الانخراط في علاقة طبيعية مع العالم؟ هل شرح له أحد قصة سقوط الجدار الألماني وكيف اضطرت ألمانيا الشرقية إلى إلقاء نفسها في حضن الشطر الغربي؟ هل أدرك أن زمن الابتزاز النووي والصاروخي قد ولى وأن دونالد ترمب لا يشبه أبداً باراك أوباما؟ هل هزّه حجم الفارق بين التقدم الذي أحرزه الشطر الجنوبي بفعل التكنولوجيا والديمقراطية فقرر على الأقل فتح النافذة؟ وهل تلقى نصيحة صينية بتقديم التنازلات للكوريين الآخرين بدلاً من تقديمها على مائدة لقائه المتوقع مع ترمب؟ هل حلم بالحصول من أميركا على تعهد شبيه بالذي حصل عليه فيديل كاسترو بعد أزمة الصواريخ الكوبية، أي أن تتعهد واشنطن بعدم مهاجمة نظامه عسكرياً في مقابل توقفه عن لعب دور الولد الشرير مروّج الصواريخ في العالم؟ أسئلة كثيرة لا بد معها من شيء من الحذر، ذلك أن لعبة السلام ليست سهلة لنظام مؤسس على الخوف ولزعيمه المطلق قدرة غير محدودة على تغيير الاتجاه.
لم يعد باستطاعة دولة إحكام إغلاق النوافذ وتخدير الناس بالعقاقير القديمة. القلعة لم تعد قلعة. العزلة تشقق الجدران وتفسد الهواء وتحيل الماء آسناً. القنبلة النووية لا تكفي لإشباع جائع. وصور الزعيم المحبوب لا تغني عن الوجبات الثلاث. الصواريخ نفسها تأكلها الشيخوخة العاجلة من دون جديد التكنولوجيا. ولماذا سيرتضي كوري الفقر وينعم كوري آخر بمنجزات العصر؟ العالم الجديد يتسرب بلا استئذان عبر الإنترنت والهاتف والشاشات.
ما أصعب أن تستسلم قلعة. التحول دولة طبيعية ليس أمراً يسيراً. لكن كيم قد يكون جنّب بلاده مسار الانحدار والانتحار والانهيار إذا اختار التحول المبرمج واقتدى بالتجربة الصينية على رغم فوارق. وقصة كوريا ليست قصتها وحدها. هل تستطيع إيران مثلاً الانتقال من الثورة إلى الدولة الطبيعية؟ وبماذا شعر الرئيس حسن روحاني وهو يشاهد كيم يعبر إلى الشطر الجنوبي؟
ينتظر العالم موعد كيم مع ترمب. لقاء زعيمين نوويين وصعبين. لكن إذا واصل كيم رحلة التطبيع مع العالم فقد يستحق «نوبل» للسلام ويشاركه ترمب الجائزة. لقد نجح سارق الأضواء في الفصل الأول. أغلب الظن أنه سرق أيضاً من ميسي ورونالدو لقب «صانع الألعاب».