كوكب كالدو.. والروح الطرابلسية
المهدي التمامي
محمد (شاينة)…
هكذا يناديه الجميع في كافيه (كالدو) بحي دمشق في العاصمة طرابلس.. يقضي (شاينة) ساعات دوامه في الكافيه واقفاً أمام (ماكينة عصر البن) في دأب وبهجة.. ذراعان من فولاذ الصبر.. تبدعان المذاقات كلها بمهارة عالية..
شاب وسيم، وأنيق، ومؤدب جداً.. يمتلك ابتسامة من خزف.. يمثل أنموذج الشاب الطرابلسي الذي كثيراً ما رأى فيه أبناء المدن الأخرى قدوتهم؛ من حيث الأناقة، والذوق، والاختصار، وقدرته على التكيف مع الظروف الطارئة والرقي في المعاملة، والعقلانية المدنية التي تتخذ من السيطرة على الوقت وتبادل المصالح المثمرة وشيجة قوية تفوق وشيجة الدم والجهوية.. ناهيك عن التجديد الدائم للغة الشارع المخففة من الدلالات الثقيلة والبعيدة، فغالبية شباب العاصمة يميلون إلى النحت اللغوي الأنيق.. لا يخشوشنون البتة، حتى وهم في قمة غضبهم المشذب.
للأسف، كانت هذه حال طرابلس من قبل، وهكذا عرفتها منذ قدومي إليها قبل عشرين عاماً تقريباً.. مدينة تضمخها روائح الفل والحبق والحنة والزهر… مدينة تراكم جمالها الخاص على مدار اليوم، تصحو على غناء النوارس، وفي الليل تنعس على هدهدة موج السرايا.. يضفرها (المالوف) بذوقية نادرة يتقاسمها الطرابلسيون جميعاً دون استثناء.. قبل أن تظهر علينا نماذج مشوهة من هنا وهناك، وتتصدر المشهد، في سلوك فج، وتعامل استعلائي يمثل السادية في نسختها الليبية القاسية، التي تصل بها الشراسة إلى درجات وحشية لا تعقل..
لقد تعلمنا من طرابلس أيضاً، تنمية مشاعر الجمال تجاه الناس والحياة والأدب، واحترام شخصية الإنسان من خلال تفاعله الإيجابي وعطائه اللامحدود.. ففي طرابلس تشعر بأنك ضمن فريق عمل يقوم على الشفافية والوضوح، ومشاركة الأفكار دون النظر إلى خلفية صاحبها الاجتماعية أو الجهوية..
أما ما نراه اليوم من ممارسات الإقصاء والتهميش، واحتكار الحق والحقيقة، والتعاطف الدافق وانزياحاته المعطوبة… وصولاً إلى (التوحد المتوحش).. ماهي إلا تشوهات بنيوية في طريق إدارة فرصة التواشج الأخير، ومنع التفكك…
ما أجمل أن تعود لطرابلس روح الحياد والعدالة، بعيداً عن الأسافين التي يسعى البعض المستقوي ظلماً، لدقها في نعش
ليبيا الجديدة، وهي:
– اختزال الدولة كمفهوم وكيان في تداعيات الصراع الحالي بين الليبيين.
– مبدأ محاصصة المغالبة وإبعاد المجتمعات الغير مسلحة عن المعادلة الوطنية.
لكن مع هذا كله فإن محمد (شاينة) الشاب المؤدب؛ ومن على شاكلته من شباب العاصمة، قادرون على إعادة النبض للجسد الطرابلسي الغافي في بياته الاضطراري كنوع من الوقاية وحماية ما تبقى من إرث مضيء يخشى أن تمتصه ثقوب العابرين خلف وهم التفوق…!