كربلاء الصدر الجديدة
سالم العوكلي
“لبنان يا ليبيا والحزن يوجعه.. ما زال كل مساء يطلع القمرَ”. منصور رحباني
*******************
منذ أول يوم لثورة فبراير الليبية العام 2011 ظهر علم جديد/قديم، زاه بألوانه، يعكس حنين جيل الاستقلال، ويعكس ولع شبان الثورة بتعدد الألوان بعد أن عاشوا حقبة من الأحادية في علم ذي لون واحد، دون هوية، يعكس أحادية الرأي والقرار والحكم. علم الدولة عادة ما يحكي تاريخها عبر ألوانه وهويتها عبر الأيقونات المثبتة عليه، غير أن الأيديولوجيا هي من بدأت في تصميم العلم الليبي بعد انقلاب 1969، ضاربة بالشخصية والهوية الليبية عرض التاريخ، فاستعار الحكم الجديد المهووس بشخصية عبد الناصر القومية علم الجارة مصر ونشيدها الوطني في مؤشر مبكر عن استراتيجية هذا النظام لتفكيك الهوية، وبعد إعلان سلطة الشعب صممت هذه الأيديولوجيا؛ التي حولت البلاد إلى هلام جماهيري يحكمه مزاج شخص، العلم الجديد، وربطت لونه الأخضر بالنماء حينما كان التصحر يجتاح كل شيء في البلد، من تجريف الأرض والطبيعة إلى تجريف العقول والمؤسسات والقانون وغيرها من مكونات الدولة الحديثة. لذلك بمجرد أن أحس الليبيون بإمكانية إسقاط النظام الذي رزحوا تحت مزاجه المتقلب أربعة عقود أخرجوا من أرشيف ذكرياتهم علم الاستقلال الذي يعتزون به، والذي أنزله القذافي من سارية الوطن ليبذل فيما بعد كل جهده التعبوي في كتابة تاريخ يشوه الاستقلال، ويقنع الأجيال الجديدة بأن تاريخ ليبيا بدأ مع أول سبتمبر 1969.
حين شاهدت هذا العلم يُنزّل بشكل مهين من السارية ويطالب البعض بحرقه في لبنان التي كنا نعتبرها مختبر الديمقراطية الذي يحجّ إليه كل العرب، استغربت، وكأن ثمة ثورة مضادة تقوم هناك، لأني لم أتصور أن أرى هذا المشهد إلا إذا عاد القذافي وزبانيته للحكم من جديد، أو لو فشلت ثورة الشعب الليبي في إسقاط النظام المسؤول وحده عن كل الجرائم داخل ليبيا وخارجها، ومن ضمنها جريمة إخفاء السيد موسى الصدر الذي كان في زيارة للقذافي حينما كانت حبال المشانق لمعارضيه تتدلى في كل ركن من ليبيا، وحينما كانت الميليشيات المدعومة من قِبَله في لبنان وبعض الدول العربية تنفذ أعمال تصفيته لمعارضيه في شوارع الدنيا مقابل المال أو السلاح.
كان السيد موسى الصدر يدرك، وهو يزور القذافي في وكره بباب العزيزية، أنه يسير على جثث النخب الليبية التي نكل بها القذافي، ويسير على أرض اختفى فيها الكثير من المناضلين الليبيين حتى يومنا هذا. وكان السؤال: ماذا يريد هذا الزعيم اللبناني الشيعي الذي يسعى لرأب الصدع في لبنان ونشر ثقافة التسامح بين الطوائف هناك، ماذا يريد من مجرم لعب دورا في حرب لبنان الأهلية وفي حروب ليبيا الأهلية الصامتة، وعاث خرابا في كثير من بقع العالم؟!.
دون أن نغفل عمّا حدث في المنطقة من لعب بالعواطف الدينية وبوجدان المؤمنين بالطوائف، كان الليبيون يدركون المزاج الشيعي لدى القذافي الذي تولد بعد الثورة الإيرانية وتجلّى في دعمه لإيران ضد العراق في حرب الخليج الأولى، ودعمه لحزب الله والفصائل الشيعية في لبنان، نهاية بدعوته الملحة لبعث الدولة الفاطمية من جديد في الشمال الأفريقي، لكن السؤال المقلق كان: ماذا يريد موسى الصدر من القذافي؟ ماذا يريد (الإمام) من (الشيطان)؟. سؤال فكر فيه الليبيون كثيرا، وهم يعرفون تاريخ الرجلين النقيضين؟ لكن أن يسير إلى بيت الغولة بقدميه ـ رغم التحذير الذي لقيه الإمام من شقيقته ومقربيه من عواقب هذه الزيارة التي تمت وللأسف لأنّه من شباك المصرف المفتوح في الباب العالي بطرابلس كان يُسيل اللعاب والحبر والدماء ــ فهذا أمر لا يعني الليبيين بشيء قبل فبراير ولا بعده. فهذا العلم الذي أنزله “الأمليون” من السارية في بيروت وطالبوا بحرقه هو رمز الثورة التي انتقمت للصدر ولكل ضحايا هذا النظام إن كان الانتقام يشفي غليل حركة أمل في العقيدة الشيعية التي لا تعرف النسيان أبدا أو تجاوز الألم، إذ ما زال مقتل الحسن والحسين يدير السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية بعد خمسة عشر قرناً، بينما تناست الأمة المسيحية قتل اليهود للمسيح، وتحولوا إلى حلف قوي ضد باقي الأمم التي يصنعها التاريخ بدل أن تصنعه.
ندرك أن هذه العقيدة مصمَّمَة ضد النسيان وضد فكرة التسامح أو تجاوز الألم الذي ما زال يمارس في طقوس جماعية في كل ذكرى، غير أن العقيدة من المفترض أن تخبر هؤلاء الغاضبين أن لا وازرة تزر وزر أخرى، فمثلما كان الصدر ضحية القذافي المجرم كان الشعب الليبي برمته ضحية يتجاهلها العالم الذي استمر يُصدِّر معلوماته الاستخباراتية لمخابرات النظام من أجل الحفاظ عليه، ويُصدِّر تقنيات التلصص على المعارضين والشعب، وسيارات المطاردة البوليسية وأدوات التعذيب، والسلاح الذي لم يوجهه سوى لجيرانه أو مواطنيه. وكان السؤال، كلما زارت شخصيةٌ يحترمها الليبيون بابَ العزيزية : ماذا تريد من القذافي؟ وكان السؤال أيضا ــ حين اختفى السيد موسى الصدر في ظلام القذافي المطبق على ليبيا كلها ـــ ماذا يريد الإمام الخلوق (الصدر) من القذافي؟ ولأن الليبيين يعرفون “البير وغطاه” كانت إجابتهم دائما: كل من يحج إلى باب العزيزية لا يريد سوى مالا أو سلاحا، لأن القذافي كأي زعيم عصابة لا يملك غيرهما.
ولأن الليبيين ليسوا عميانا، كانوا دائما يرون فنادق طرابلس الفخمة مكتظة بأمراء الحرب من كل بقعة في العالم ينتظرون دورهم لقبض رواتبهم الشهرية أو السنوية، أو لشحن السلاح الذي يقتلون به مواطنيهم، وبالتالي كانوا يدركون أن كل حاج إلى باب العزيزية يهين كل القيم الإنسانية، باعتبار أن كل من يقبض الملايين من قوت الليبيين سيمر في طريق المطار على مشاهد الفقر الليبي دون أن يؤنبه ضميره لكونه أحد أسباب هذا الفقر، إذا ما تغاضينا عن مروره فوق مقابر جماعية لمئات الأبرياء من الليبيين.
إخفاء السيد موسى الصدر، المواطن الإيراني المولود في مدينة قم، والمقيم بالجنوب اللبناني، جريمة بشعة لا شك، تضاف إلى كل الجرائم الذي ارتكبها هذا النظام في حق شعبه وفي حق حتى المقربين منه، لكن إنزال رمز ثورة، هي جزء من الربيع العربي، جريمة أخرى في حق الأخلاق والقيم الإنسانية، وفي حق حتى العقيدة التي يعمل تحتها متشدّدو كتيبة أمل، التي من المفترض، وإن كان لابد من أن تحرق علما، أن يكون العلم الأمريكي أو الإسرائيلي، وليس علم ثورة شعب على نظام كان هو وحده المسؤول عن الجريمة، علم فرح به شعب كم أحب لبنان وكم رأى فيها قبلة لأحلامه بالحرية والديمقراطية، وكم عشق أغاني فيروز التي صاحبت رفرفة هذا العلم في ميادين ثورته.
لبنان الديمقراطية وثقافة الحداثة وحرية الصحافة والتسامح كان في قلب الليبيين دائما، وليس لبنان المليشيات أو الطوائف أو نزعة الانتقام، لذلك لا نريد لجريمة إخفاء الصدر أن تكون كربلاء سياسية جديدة تحدد مستقبل العلاقات بين الشعبين، مثلما كربلاء القديمة ما زالت ضغائنها تعيث حروبا في المنطقة حتى الآن. ولا أحد مستفيد من هذا التسييس لمآسي التاريخ سوى أعداء أو منافسي هذه الأمة التي تتصدع يوميا بسبب تسييس العقائد والتلاعب بوجدان الشعوب.