كابوس إبراهيم عيد وعيدنا كابوس
سالم العوكلي
تقديمُ القرابين طقس قديم منذ أن اخترع الإنسان الأول تصوراته لفكرة الآلهة، في خضم الغموض الكوني والوجودي الذي يحيط به، وبذل جهده لنيل رضاها، حيث ارتبطت كل الكوارث والمصائب الطبيعية بغضب الآلهة أو تعدد الآلهة، التي تدير مفاصل الكون، وبدأ هذا الطقس بقسوة هائلة حين كانت القرابين تقدم من البشر، الإناث والأطفال خصوصا، فكلّ حضارة فيها مذبح مقدّس، نجد بقاياه إلى يومنا الحاضر، ومع تطور المنظومة الأخلاقية للبشر، بدأت الاستعاضة عن الحياة الإنسانية بعضو من الإنسان، والمتبقي منه حتى الآن طقوس الختان للذكور في المجتمعات الصحراوية، والإناث في المجتمعات الزراعية التي تعيش على أطراف الأنهار.
كان الفراعنة يقدّمون سنويا أضحية لنهر النيل؛ لاتقاء فيضاناته وغضبه، وعادة ما يكون القربان فتاة عذراء.
وفي الهندوسية تقدم الأضاحي للإله براهما؛ انطلاقا من كونه حالّا في كل المخلوقات؛ الخيّرة منها والشريرة، يحمل عنها آلامها وذنوبها، ويعدّ القربان كهدية من البشر ليستمر الإله في مهمته .
أمّة المايا يقدمون في موعد محدد من كل سنة أضحية للآلهة من الأسرى من أعدائهم من القبائل المتحاربين معها، وأحيانا من الأطفال الرضع.
الفينيقيون كانوا يتقرّبون إلى الآلهة بتقديم قرابين من الأطفال، يُذبحون أمام صنم برونزي .
في الصين القديمة كان البوذيون يقومون بنحر فتاة عذراء كل رأس سنة صينية، ويشرب الكهان دم الأضحية، ويوزّعون لحمها على المتشردين، ورغم اختفاء هذا الطقس في العصر الحديث إلا أنه حدث العام 2009 إعادته بنحر فتاة من قبل الكهنة في رأس السنة في إحدى القرى الصينية، وشربوا دماءها باعتبار شرب دم فتاة عذراء يزيد عمر الإنسان.
حافظت أديان التوحيد على مبدأ الأضحية والدم المقدس، بعد أن أعادت إنتاج قرابين الشعائر القديمة عبر سرد حكايات قديمة بشكل يناسب كل بيئة ظهر فيها دين الوحي الجديد.
حين جاء الإسلام ليقضي على الأديان الوثنية، ويهدم الأصنام أو الآلهة القبلية، التي كانت تُقدّم عند أقدامها الحجرية القرابين المسفوحة الدماء، أعاد إنتاج تقديم القربان عبر تنقيح حكايات وردت في الكتب المقدسة السابقة، وتحوّل هذا المفهوم إلى ما سمّي الأضحية، التي تُقدّم سنويا كشعيرة تعكس تضامنا مع الكابوس الذي رآه إبراهيم في منامه، وما تحول إلى أمر إلهي بذبح ابنه إسماعيل، جدّ العرب، ليُفدى بذبح من السماء كما تقول الرواية القرآنية، ولتغدو هذه الفدية السمائية شعيرةً يقومُ بها المسلمون سنويا في موعد محدد من كل عام.
ورغم أنّ ذبح الأضحية ليست من أركان الإسلام، إلا أنَّ هذه الشعيرة مع الوقت تكتسب قداسة اجتماعية، تجعل من ليس حريصا على إقامة الأركان الرئيسية، ملتزما بها، مهما كانت قدرته أو ظروفه .
الحكمةُ الأرضية هي أنَّ من يقدرعلى الذبح يتصدّق على غير القادر، إلّا أنَّ الأمرَ تجاوز هذه الحكمة، وأصبح يتعلق بمكانة اجتماعية وبكبرياء شخصي، ما جعل البعض يلجأ إلى الاستدانة في سبيل أن يفرح أولاده بمشهد الدم صباح يوم الأضحى.
منذ أيامٍ قليلة تابعت عن كثب ذلك القلق الذي شابَ وجوهَ الناس، وهم يتنقلون بين حظائر الأغنام لشراء الأضاحي، والجميع في ذهنه أن ذكر الضأن هو ما يحافظ على كبريائه الاجتماعي، بمواصفات تليق بفكرة القربان، الذي يجب أن تقدّمه خاليا من العيوب وكأنها في مسابقة جمال. تابعتُ عن كثب وجوه الناس، وهم يتراجعون أمام أسعار خيالية في ظلّ فقدان السيولة، وأسعار مضاعفة إذا كان المقابل للقربان صك مصرفي، وفي جميع الأحوال لا يمكن العودة دون إنجاز المهمة، طالما الأولاد في السيارة المركونة قرب سوق الماشية؛ يتطلّعون بشغف.
تحوّل كابوس إبراهيم القديم إلى كابوس مجتمع يحبّ التباهي، والزمن صعب حين انحرف هذا العيد عن حكمته، وتحوّل إلى كرنفال استعراضي، غالبا ما يدفع الفقراء ثمنه من ميزانية العام كلّه، خصوصا حين أصبح سعر الدولار متحكّما في هذه الشعيرة، التي تضاعفَ سعرها في السنوات القليلة الأخيرة، بينما الدخول تقلّصت بشكل مضاعف.
فلسفة الأضحية في الإسلام ــ بخلاف الأديان الأخرى ــ تتجاوزُ المفهومَ التقليدي للقربان المادي إلى المقصد الاجتماعي المتعلق بالتضامن والتراحم الإنساني، لكن يبدو أنّ هذا المقصد كفّ عن فاعليته، وتحوّلت المبالغة في هذه الشعيرة إلى كارثة اجتماعية ، بعد أن فقدت بُعدها الإنساني، وتحوّلت إلى نوع من الإهدار في كل شيء .
في هذا اليوم؛ الذي أصبح فيه لزاما أخلاقيا واجتماعيا على كل مسلم متزوج أن يقدّم ذبيحة، بإمكاننا أن نحصي بأرقام تقريبية عشرات الملايين من الذبائح نصفها من الإناث، وبإمكاننا أن نحصي كمّ المخلفات بمئات الألوف من الأطنان، وعشرات الملايين من لترات الماء العذبة التي تهدر على تنظيف الذبائح وأحشائها، وآلاف الأطنان من أشجار الغابة التي تتحول إلى فحم يتراكم في أكياس على جوانب الطرقات، وما تعانيه أجهزة النظافة التابعة للبلديات بعد هذا اليوم، خاصّة في المدن المكتظة، وحين يحتفظ كل ذابح باللحم في ثلاجته لأنه حتى المساكين والفقراء مضطرون للذبح تحاشيا للعار الاجتماعي، يتحوّل هذا اليوم إلى كارثة بيئية بمجرد أن كفّ عن كونه عملا تضامنيا، وعاد إلى مفهوم القربان التقليدي.
حين أذهبُ ثاني أيام العيد من قريتي الجديدة إلى قريتي القديمة، أحس كأني في طريق الجحيم، بفعل هذه الروائح الكريهة التي أشقّها في طريق ترمى فيها مخلّفات العيد على جانبيها. وأستغرب ممن يحرّمون العيد الذي تنتشر فيه القناديل، ولعب الأطفال، والزهور على الأرصفة، ويتمسّكون بالعيد الذي تنتشر فيه السكاكين، وتروس الشحذ، وأكياس الفحم على الأرصفة.