قصة “مخطوف” إلى مالطا (ج2)
أحمد قوداب
نهاية الاختطاف
في اليوم الرابع وبشكل فاجأنا خارتْ عزيمة الخاطفين وقرروا تسليم أنفسهم وطلبوا من الركاب مسامحتهم، موضحين أن معارضتهم كانت للدولة وأنهم لم يتقصدوا إيذاء أحد غيرها، كانت كلماتهم مؤثرة وأبكتْ العجائز، لم أنس تفاصيل وجه ذلك الرجل الذي لم ينم لأربعة أيام، كلما استيقظ كنت أجِدُهُ واقفا ممتشقا سلاحه.
جاء الفرج ونزلنا من الطائرة، رأيتُ الخاطفين وقد نقلوا في سيارة سوداء، لم أرهم بعد ذلك إلا في تلفاز الفندق الذي نُقِلْنا إليه، في الخارج كان هناك الكثير من الناس الذين كانوا يرمون إلينا البسكويت والجبن والماء كنوع من المساعدة الإنسانية، رغم الجوع لم نأخذ شيئا منها، بناء على طلب أحد الركاب الذي قال” ردوا بالكم ترفعوا حاجة من الأرض”.، نقلنا إلى مستشفى قريب تلقينا فيه الفحوصات ووقع معالجة بعضنا من الجفاف، ومن ثم نقلنا إلى فندق داخل المدينة.
صبيان في مالطا
لازلتُ أذْكر رقم الغرفة، وتفاصيلها، كان كل شيء جديد بالنسبة لي تماما، كان عالما آخر لم أسمع به حتى، قررتُ وصديقي أن نغامر ونتجول في الفندق، نزلنا إلى الدور الأرضي ورأينا المرقص الذي مُنْعنْا من دخوله يبدو لصغر سننا، ولكن دخلناه في غفلة من الحرس، تُهْنا في تلك الأضواء الحمراء والأجساد العارية، كانت تجربة ممتعة وجديدة لصبييْن من سبها في بداية الثمانينيات، في اليوم التالي أُخِذَ كل الركاب إلى السوق الحرة، وكانت الفرحة بعد أن اخبرنا موظف السفارة أن الحساب هنا مفتوح وطلب منا شراء ما نريده دون تردد.
اشتريتُ حينها أفخر ما رأيته من السجائر، واذكر أني اشتريتُ سماعة ومسجلة الهتفون التي كانت موضة ذلك الزمن، إضافة للعديد من الهدايا والساعات والتذكارات، كانت البضائع غريبة ولم اعرف معظمها، ولكن أحببتُ ذلك المكان وذلك اليوم، إنه اليوم الخامس من اختطاف الطائرة.
ترتيب أدوار
لكل شيء نهايته، ورحلتنا غير المحسوبة إلى مالطا انتهت، لنستقل الطائرة التي ستعود بنا للبلاد، عاد المساجين إلى مؤخرة الطائرة ومعهم رجال الأمن، وعادت العجوز المريضة وابنها بجانبنا، كما جلس العجوز المسن سعيدا في مقعده ، بعد أن استقرينا في مقاعدنا، دخلت إلى الطائرة امرأة شديدة الجمال وكأنها ممثلة أجنبية، لم نعرف أنها العروس التي أتت معنا في الطائرة، صعدتْ وحولها العجائز محملات بالهدايا والحقائب والمشتريات.
وصلنا طرابلس وكان في استقبالنا فتيات صغار قدمنَّ لنا الورود وساعات يد تذكارية، كما كان في استقبالنا عدد من المسئولين، وأعلنتْ السلطات عن توفير إقامة فندقية لمن أراد البقاء في طرابلس، وحجوزات لمن أراد العودة إلى سبها أو إكمال رحلته إلى بنغازي، عندها ودّع الركاب بعضهم بحسرة، فقد أحسسنا بحميمية كبيرة بيننا رغم أننا لا نعرف بعضنا البعض، أكملتُ طريقي لبنغازي ولكن قلبي ظل معلقا في تلك الطائرة.
خاطف طليق
إلى الآن لم أنسَ تفاصيل تلك الرحلة، ولعلَّ ما سمعته فيما بعد عن تسليم الخاطفين للسلطات الليبية وإطلاق سراحهم زاد من تعلقي بتلك الرحلة الغريبة، يقول سليمان إن أحد الخاطفين لا يزال حيا ويعيش في سبها وصار إماما بأحد مساجد المدينة، وكلما نظرتُ إليه تعْتمِرُني رغبة بأن أذهب لألقي عليه التحية، وأخبره بأني كنت أحد ركاب الطائرة التي اختطفها، ولكنني لم أجرؤ على ذلك.
هنا حكى لي سليمان عن رحلته في القرن الماضي عام 1982، المليئة بالمغامرة التي تملكها الخوف والفرح بالسفر وانتظار المصير المجهول، إلا أن سليمان وكل من كان معه بالطائرة نسوا أنهم كادوا أن يكونوا في عداد الموتى، ولو كان الحدث في بلد آخر ما كان لينتهي بوردة وساعة وخطاب معسول.
الآن أنا مخطوف في طائرة ركاب في ظروف قد تكون مشابهة، سأحكيها لكم لاحقا.