قانون القومية الإسرائيلي… ماذا بقي للفلسطينيين؟
عبد الرحمن شلقم
الإسرائيليون عاشوا تقنية الزمن. استعملوها في جميع خطوات حركتهم نحو إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. الأهداف السياسية لها مواسمها الزراعية، وكذلك تربتها وبذورها. منذ أن أطلق هرتزل فكرته بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، تحركت آلة العمل السياسي والإعلامي والمالي اليهودي بين مفاصل قوى القرار في العالم، كانت بريطانيا في خضم الحرب العالمية الأولى المهندس الجغرافي السياسي لخرائط المستقبل. إنشاء اليهود غرفة العمليات السياسية والمالية والدعائية العالمية في عقر العقل البريطاني ممتدة إلى دوائر التأثير في الدول التي تشكل القوة الفاعلة في العالم. إعلان بلفور البريطاني كان السطر الأول في كتاب الزمن اليهودي الحديث، بل كان الصفحة السياسية المضافة في سِفر الآتي اليهودي. الزمن اليهودي حقل أرضه سيولة التطور المستمر في التوازن والصراع الدوليين. في كل حلقة من سلسلة الحركة نحو الحلم بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين كان الجيش السياسي هو الذي يمثل المحراث الذكي الذي يفتح طبقات التربة لزراعة البذور. الوعي بحسابات المواسم وزمنها وتحديد الحركة نحو الهدف كان الوقود المقدس الذي لا ينفد. تحركت الهجرات اليهودية نحو فلسطين بين الحربين العالميتين. الوكالة اليهودية واجهت السياسة البريطانية المراوغة بتصعيد عنيد، وكان التدفق اليهودي أقوى من الدهاء الإنجليزي المزدوج، لم يستطع الفلسطينيون غلق باب بلادهم في وجه البواخر المكتظة بآلاف اليهود حتى أصبح التفجير الديموغرافي على أرض فلسطين أمراً واقعاً. وظفت القوة اليهودية الحرب العالمية الثانية، جعلتها الحقل الجديد وزرعت فيه البذور القديمة. الفظائع النازية ضد اليهود كانت الصاعق الإنساني الذي هزَّ الضمير العالمي، وأصبحت قضية الزحف اليهودي على أرض فلسطين، باهتة أمام ما عاناه اليهود في ألمانيا وخارجها على يد النازية. شارك الآلاف من اليهود في الحرب مع جيوش الحلفاء ضد المحور، وهكذا أصبحوا طرفاً في القوى المقاتلة وحققوا بذلك هدفين: التدريب العسكري استعداداً لمعركتهم القادمة في الوطن الموعود فلسطين، والمشاركة في جبهة القوة السياسية القادمة التي ستسود العالم، وهي دول التحالف. تحقق لهرتزل ما حلم به، وعبّأ القوة المالية والسياسية والإعلامية اليهودية من أجله، بقرار الأمم المتحدة بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
ديفيد بن غوريون الذي كان المهندس المدني للدولة الإسرائيلية، أتقن فن الزراعة السياسية. خاض حرباً مع العرب مستفيداً مما خبره اليهود عسكرياً في الحرب العالمية، قفز على قرار التقسيم، واحتل الجزء الكبر من أرض فلسطين، وهجّر أهلها وفتح أبواب الهجرة لليهود. في أزمة قناة السويس ركب عربة الحرب مع فرنسا وبريطانيا، وكان هو الرابح الوحيد في تلك الحرب بين القوى التي هاجمت مصر. التقنية النووية من فرنسا التي مكّنته من القنبلة الذرية، وكذلك دعم قواته الجوية. إسرائيل لا تتوقف عن استثمار سياسة المواسم محلياً ودولياً. حرب الأيام الستة سنة 1967 فكرة وقفزة عربية في رحاب الحلم وظفتها إسرائيل عسكرياً وسياسياً. أعادت تموضعها على خرائط القوة الدولية في خضم الحرب الباردة، صارت الورقة الفاعلة في الشرق الأوسط، وأعادت الولايات المتحدة تصنيفها حليفاً أساسياً لها، في الوقت الذي كانت فيه أغلب الدول العربية تعتبر حليفة للكتلة الشيوعية الشرقية. حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، كانت رصاصة سياسية بقدر ما كانت عسكرية. حققت فيها إسرائيل قلب الكثير من الصفحات، أهمها تطبيع العلاقات مع دولتين عربيتين.
فتح لها ذلك أبواباً عدة على المستويين الإقليمي والدولي. غزو العراق لدولة الكويت غيّر الكثير من المجريات السياسية، وكانت محطة مدريد للمفاوضات العربية الإسرائيلية سنة 1991 بذرة أخرى في حقل جديد. صار الحديث والمفاوضات حول السلام بين العرب وإسرائيل ليس ثنائياً، لكن جماعياً.
اجتماعات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أنتجت اتفاقاً مباشراً للمرة الأولى بين الطرفين. اعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولةً، وتراجعوا عن المطالبة بكل أرضهم التاريخية، كان ذلك بالنسبة للإسرائيليين نصراً بلا حرب، واتفق في أوسلو على تأجيل أهم القضايا وأخطرها، وهي موضوع القدس واللاجئين والمستوطنات. كان ذلك المحفل بيدراً خصباً سيؤتي أُكله مع مهندس السياسة الزراعية لفلاح صهيوني متطرف هو بنيامين نتنياهو. راوغ وغالب. أبطل مفعول أوسلو بعد أن حقق منه ما أرادته إسرائيل، وأطلق العنان لآلة الاستيطان التي حولت حلم إقامة الدولة الفلسطينية إلى سراب طمسه الظلام.
الحكومة الإسرائيلية التي يقودها نتنياهو تتشكل من ائتلاف صهيوني، وهذا عنوانه الرسمي، وليس كما نستعمل نحن العرب تلك الكلمة – الصهيوني – في لغتنا الإعلامية السياسية، هذه الحكومة تؤمن بأن الضفة الغربية جزءاً لا يتجزأ من أرض إسرائيل، وأن الشعب العربي الفلسطيني لا مكان له فيها، وأن المستوطنات هي الوثائق الصخرية التي تقيم الحق اليهودي فوق الأرض.
القانون الأساسي الذي أصدره الكنيست الإسرائيلي، الذي يقر بأن إسرائيل هي الوطن القومي لليهود، وأن القدس الموحدة عاصمتها، واللغة العبرية لغتها الرسمية الوحيدة، وأن دولة إسرائيل هي البيت القومي لكل يهود العالم، وأن حق تقرير المصير في دولة إسرائيل يقتصر على الشعب اليهودي وحده، كل ذلك يؤسس لواقع جديد، ويفتح الباب لبرنامج تهجير آخر لفلسطينيي 1948، والذين يشكلون ربع سكان إسرائيل تقريباً ويحملون الجنسية الإسرائيلية. هذا القانون الذي أطلق عليه، قانون القومية، ليس مجرد تشريع عنصري للابارتهايد، بل يفتح الباب للتطهير العرقي، بعد أن جعل عرب فلسطين مجموعة بشرية لا هوية أو مكان قانوني لهم في البلاد. فقد شدد القانون على أن الرموز اليهودية الصهيونية من عَلَم ونشيد هي الأساس في الدولة. وفي هذا القانون الأساسي نص لم يسبق أن وجد في أي تشريع آخر في العالم، وهو أن الدولة صاحبة الحق في إقامة بلدات (خاصة) بالمجموعات الدينية وأبناء القومية الواحدة. ويقرر القانون، أن الدولة الإسرائيلية مِلك للشعب اليهودي وحده. ذلك يعني أن العرب الفلسطينيين من المسلمين والمسيحيين لا مكان لهم في دولة إسرائيل. السؤال: ما الذي جعل الحكومة الإسرائيلية تتجرأ في هذا الوقت وتصدر هذا القانون العنصري الرهيب؟
من المفارقات التاريخية الغريبة العجيبة، أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت قراراً سنة 1975 ينص على أن «الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري»، وطالب القرار جميع دول العالم بمقاومة الآيديولوجيا الصهيونية التي تشكل خطراً على السلم والأمن الدوليين. وقد صدر ذلك القرار بناءً على قرار صادر من منظمة الوحدة الأفريقية الذي رأى: أن النظام العنصري الحاكم في فلسطين المحتلة والنظامين العنصريين الحاكمين في زمبابوي وجنوب أفريقيا ترجع إلى أصل استعماري مشترك وتشكل كياناً كلياً، ولها هيكل عنصري واحد.
لقد ألغي هذا القرار الأممي الذي أخذته الجمعية العامة سنة 1991 بعد أن اشترطت إسرائيل ذلك للمشاركة في مؤتمر مدريد.
إن قرار الجمعية العامة ينطبق بقوة اليوم على القانون الإسرائيلي الجديد، ولكن الإسرائيليين يتقنون استغلال المواسم الزراعية السياسية. الحقول اليوم لهم وحدهم. الانكسارات العربية. والتشرذم الفلسطيني المنقسم بين غزة ورام الله، الدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل، يعطي لها الحقول والبذور والماء والمحراث. السؤال ماذا بقي للفلسطينيين في الداخل والخارج؟