فساد أفقي ووطن ملقى في الرابش
سالم العوكلي
منطقة رأس الهلال على الساحل الليبي الشرقي، والسواحل المجاورة لها، من أجمل المناطق في ليبيا، وقد شهدت في سنوات ماضية إقبالاً من السياحة الداخلية رغم قل الخدمات فيها، وربما أهم ما يميز هذه المنطقة هلالها التي سميت به والنفق المفضي إلى مينائها القديم، غير أنه في العقدين الأخيرين من حكم النظام السابق حُرِّمت هذه المساحة الجميلة على المواطنين عندما احتكرها سيف الإسلام لمشاريعه الشخصية ومُنِعْنا من الدخول إليها، حيث أقيمت فيها مزرعة أسماك خاصة به، وأنشي الميناء الذي يستقبل فقط يخوته، وتحولت إلى منطقة أمنية يمنع فيها حتى التصوير.
وبعد سقوط النظام بعامين استولى المتطرفون وتنظيم داعش على المنطقة من الفتائح إلى رأس الهلال، وتمركزوا في منتجع قوس قزح الساحر، حيث كان يقيم ولاة وسلاطين داعش من الأجانب، يشرف على خدمتهم شبان ليبيون، يوفرون لهم كل الخدمات بما فيها مناسك الترفيه على (المهاجرين)، وحرموا الناس من التنفس في هذه الأماكن الجميلة، وبعد أن حرر الجيش الوطني كل هذه المناطق ودفع ثمنا من خيرة شبابه، جاء دور الانتهازيين والسماسرة في الاستيلاء على هذا المناطق المحررة ، والآن من يذهبون إلى التنزه فيها ــ حيث لا توجد متنزهات غيرها ــ تقابلهم الأسوار والأسلاك الشائكة تحيط بهذا الامتداد على طول عشرات الكيلومترات، ويضيق هذا الوطن الشاسع بسكانه القليلين نتيجة جشع الانتهازيين ومنتهكي الأملاك والفضاءات العامة، وفي غياب الدولة أو ممثلوها لا أحد يوقفهم. حرمات الطرق استُبيحت، والشواطئ الطبيعية والحدائق والأراضي الزراعية، والغابات التي تُحرق عمدا كي تباع أراضيها في مزاد الفساد.
فالاستيلاء على أملاك الدولة ومتنفس الناس من قبل الانتهازيين الآن لا يختلف عن الاستيلاء عليها من قبل داعش والجماعات الإرهابية. ولا أحد ممن يبيع ويشتري أو يستغل هذه الأملاك المسجلة باسم الدولة الليبية منذ قيامها، يملك رخصة بناء أو سنزع صبغة زراعية أو شهادة عقارية، لكنهم يعملون في ظل فرض الأمر الواقع طالما هذه أملاك الدولة وطالما الدولة غائبة عن مشهد الخراب والاستباحة هذا.
البلديات وممثلوها فاشلون، وعمداء البلديات غير مخلصين للأمانة التي كُلِّفوا بها، طالما لا يستطيعون حماية املاك الدولة أو استردادها كأولوية لهم، فالقوانين الصارمة تحت تصرفهم، وجهات التنفيذ طوع أمرهم، والقوة التي استطاعت أن تطرد محتلي هذه الأملاك والمساحات من الجماعات الإرهابية المدججة بالأسلحة الثقيلة قادرة على إيقاف دواعش البيئة، وإنفاذ القانون دائما إنصاف للغالبية المحترمة التي لم تعمل بمبدأ الغنيمة، واحترمت القانون في حد ذاته حتى في غياب مطبقيه.
مئات السيارات الحكومية نراها تتسكع وتمر على هذه المخالفات، وفي داخلها مخولون قانونيا لإيقاف هذا الانتهاك الصريح، يمرون وكأن الأمر لا يعنيهم، أو كأنهم سُيّاح يتسكعون في دولة أخرى، لا شرطة الحرس البلدي قاعلة، ولا الشرطة الزراعية، ولا شرطة الكهرباء، ولا الشرطة السياحية، والوحيدة التي تعمل للأسف هي الشرطة الدينية المؤدلجة، أو شرطة الآداب المطلعة على الأفئدة التي تقبض على أي مشهد للمرح، أو تعكر صفو أي فضاء للثقافة والجمال، أو تراقب وتحرق الكتب.
بهكذا صورة مقلوبة وضد التحضر والجمال، فإن الأرض ومن عليها ذاهبة إلى أن تكون يبابا، ولن نترك للأجيال اللاحقة سوى خرابة كانت تسمى وطنا. وربما هذا الكابوس هو ما يجعلنا نرى صور ما تبقى من مناظر طبيعية تجتاح مواقع التواصل، وكأن المصورين في سباق مع الزمن، ويعرفون أن هذه المناظر الخلابة ستختفي كما اختفت معالم كثيرة.
الآلات الضخمة التي تضج وتحفر، وتسلخ التربة الزراعية، وتقطع الأشجار، وتجرف رمل الشواطئ، وتخوض في الجبال المكسوة بالغابة في مشاريع الكسارات ، معظمها آلات مسروقة من مقرات الشركات الأجنبية بعد انتفاضة فبراير وانسحاب الشركات، والأراضي التي تعمل فيها أراض مسروقة من الدولة أو المشاريع العامة، والأموال التي تتلقاها مقابل هذا التخريب مسروقة، وفي بحر السرقات هذا ينتظر المواطن العفيف تدخلا من السلطات أو عقابا يرد له اعتباره وبيئته وحقوقه وثقته في المستقبل.
ثمة فساد رأسي قريب من مصادر الدخل ومن المصرف المركزي، تُحال عبره المليارات والملايين إلى مصارف الدول المعتمة في الخارج، وتُبنى به القصور على شواطئ الدنيا وتُنشأ به شركات الطيران الخاصة .. إلخ . لكن ثمة فسادا أفقيا، لا يقل خطورة، يتمدد في هذا الوطن ويأتي على كل أخضر ويابس، فقد يأتي وقت الحساب ونستعيد الأموال المنهوبة، لكن من يعيد عشرات الآلاف من الأشجار المقطوعة؟ ومن يعيد ملايين الأطنان من التربة الزراعية التي لونت شواطئ البحر باللون الترابي في الأمطار الأخيرة بعد أن اقتُلِعت الأشجار والجذور الماسكة لها؟. وكل ما يحدث من فيضانات في المدن وضواحيها ومن غرق أحياء سببه البناء العشوائي والمحاجر غير المرخصة التي قفلت الوديان التي كانت تُصرِّف مياه الأمطار.
هذا الفساد الأفقي ناتج عن عقود من التسيب وتعطيل القانون لدرجة أصبح ثقافة، ولحد أصبح المسؤولون المخولون بإيقافه يتعاملون معه كتحصيل حاصل، بل يشارك بعضهم في هذا الفساد في دولة حلت فيها ثقافة الغنيمة والانتهازية بدل ثقافة احترام القانون والأملاك العامة التي هي أملاك المجتمع.
لم أسمع أحدا من أعضاء الحكومات الكثيرة، أو من أعضاء المجالس التشريعية، يتحدث عن هذا الشأن الذي يصيب الوطن الذي يتحدثون نفاقا باسمه في مقتل، فمعظمهم مشغول بنوع آخر من الفساد الرأسي، نراهم فقط يظهرون على الشاشات من عواصم الدنيا يتحدثون باسم الوطن ونيابة عن الشعب عن الدولة والمستقبل والأجيال القادمة، وكلهم متشبث بموقعه الذي لا يفعل من خلاله شيئا للصالح العام، وهذا نوع آخر من الفساد الوظيفي، حين يتقاضى كل واحد منهم مرتبا ضخما، وتُصرف له سيارة حكومية تلو سيارة، مقابل مهمات لا يقومون بها بل البعض يقوم بعكسها.
الوضع من سيئ إلى أسوأ، ولافتات الإعلان عن بيع الأراضي بجانب الطرق حلت محل لافتات السلامة المرورية، والآن حين تخرج في سيارتك، رفقة العائلة، لقضاء يوم خار ج المدينة الخالية من الحدائق أو أماكن الاستجمام، لن تجد ملاذا أو ظلا لتشرب تحته طاسة شاي المساء، فكل الفضاء أطبقت عليه أسلاك شائكة وأسوار إسمنتية بشعة، ومحاجر تقذف بغبارها القاتل على كل شيء حي، ولأن الدولة ما عادت تملك سوى مساحة متر محاذية للطريق العام أصبحت هذه المساحة المكان الوحيد المتاح لرمي القمامة، وحين تخرج بسيارتك في طريق إسفلتي مليء بالمطبات العشوائية، تحيطه من الجانبين أكداس من القمامة، لن تملك إلا أن تعود سريعا إلى بيتك كي تحتمي من كل هذا التلوث الجرثومي والبصري وهذا الخراب المعلن والمتبجح، والمشهد برمته يقول أن مجتمعا لا يستطيع التخلص من نفاياته لا يستحق الحياة والجمال الطبيعي المحاط به، وباعتبار أنه حتى الكثير من الحيوانات لها آليات للتخلص من نفاياتها.
في دراسة أُجريتْ بداية القرن العشرين تحت عنوان “مشروع الاستيطان اليهودي لبرقة” قام بها علماء مختصون في جميع المجالات، تَرِد عبارة في المقدمة تقول حرفيا في صدد الحديث عن تاريخ هذه المنطقة: “كان الجبل الأخضر جنة خضراء تحيطها السنابل الذهبية من كل جانب وجاء الأتراك والعرب فدمروا كل شيء” ووجود أكثر من عشرة ألاف صهريج روماني لتجميع مياه الأمطار منتشرة في الجبل الأخضر يؤكد هذه الصورة الغابرة، وحين أجول الآن في الجبل الأخضر، أو أرى صورة له من الجو، يتمثل لي مشهد الخراب المستمر هذا الذي يزداد كل يوم وليس كل سنة أو عقد.
أتمنى من قناة 218 ، بما تتمتع به من متابعة ومن مصداقية، أن تهتم بهذا الأمر المنتشر على مستوى ليبيا، وأن تضع الأسئلة أمام المسؤولين من كل السلطات المخولة بهذا الشأن الذين صدعونا بالحديث عن الدولة والوطنية، وكل يوم نرى هذا الوطن ذاهبا إلى الهاوية رغم المليارات التي تُصرف سنويا ولا نرى على الأرض شيئا سوى مزيد من الخراب. فليس مطلوب منهم أن يبنوا أو يصلحوا، ولكن على الأقل يوقفوا هذا الخراب والهدم لكل مقدرات الوطن والمواطن، وأن يكونوا في مستوى الأمانة التي قرروا حملها، وأن يحلّلوا على الأقل لقمتهم ولقمة أولادهم .