فبراير وسرت.. حصاد 10 سنوات
حمزة جبودة
لم تعُد مدينة سرت، تلك المدينة “المغضوب” عليها من “آل فبراير”، بل تغيّرت اللعبة بعد عشر سنوات من عمر ثورة فبراير. الجميع يطلب ودّها، الجميع يحكي عنها، والجميع يحاول امتلاكها.
قاسية تلك اللحظات، التي عاشت فيها سرت جحيم انتقام “آل فبراير”، وبعدها جحيم داعش والتنظيمات الإرهابية التي تحالفت لأجل تحويلها إلى إمارة تابعة لتنظيم فاجأ التاريخ الحديث، الذي ارتبك وهو يكتب فصول المأساة والبؤس.
سرت الجديدة اليوم، حديثُ ألسنة من يصفون أنفسهم بـ”أوصياء فبراير”، والذين عاثوا فيها فسادًا، لا لشيء، فقط لأنها مسقط رأس معمر القذافي. والمفارقة الغريبة، أن الأصوات المنادية اليوم بتحويل سرت إلى عاصمة جديدة، يجهلون تمامًا ما تعنيه سرت الجغرافيا والتاريخ.
من الصعب، أن تستدعي تاريخ العام 2011 وتحديدا 17 فبراير، لتُعيد قراءة المشهد بعقلانية، لا بالعواطف، ولكن مع هذه الصعوبة، يُمكن للقارئ اليوم، أن يفهم ما حدث بطريقة أخرى. أن يتأمل واقع حاله، وكيف أصبح اليوم بعد عشر سنوات من عمر الثورة، التي يراها آخرون “نكبة”.
2
هُنا لا أنوي الدخول في لعبة “جلد الذات”، لأنها لا تنفع، لا قيمة لها اليوم، بعد عشر سنوات. لأنها لن تُعيد الأموات ولن تمحي ذكريات الجحيم التي عاشها أهالي المدينة، وغيرها من المدن التي ذاقت ويلات “الانتقام” و”الجهل”، الذي امتد إلى سنوات ما بعد الثورة، وإلى يومنا هذا.
وإن حاولنا ابتكار لعبة جديدة تتماشى مع ما عاشته سرت وتاورغاء وبني وليد وورشفانة وكل المدن والمناطق التي ذاقت جحيم الفوضى، بمباركة من كانوا في السلطة حينها، فلن نجد إلا لعبة واحدة، وهي أن نُسمّي هذا العام، عام سرت الليبية، سرت البداوة والتمدن، والحاضنة، سرت التي حاولت النهوض لأكثر من مرة، ولم تُعلن خسارتها ولو لمرة واحدة. سرت التي أصبحت لغزا كبيرا، يحتاج لقراءة هادئة لفهمه وحلّ أبجدياته المعقدة.
3
الاحتفال بثورة فبراير، بعد عشر سنوات، هو احتفال عبثي لا قيمة له على أرض الواقع، وهنا أقصد الاحتفالات التي تنظمها الجهات الحكومية والخدمية، الاحتفالات التي عادةً ما تكون حماسية أكثر منها حقيقية، احتفالات تجترُّ المفردات والكلمات والقصائد ذاتها.
أما عن الذين ما زالوا يؤمنون بالثورة التي خرجوا من أجلها، الناس البسطاء الذين كانوا يحلمون بوطن هادئ؛ فيحقّ لهم الاحتفال، ويحق لهم التمسك بالأمل، بالغد وإن كان غامضًا، لأنهم هُم الحقيقيون بيننا جميعًا.
وعن من حوّلتهم فبراير إلى رجال أعمال وقادة مجموعات مسلحة، فهُم اللصوص الصغار الذين اعتقدوا أنهم باتوا أصحاب شأن وقيمة في مجتمعهم، والحقيقة عكس ذلك تمامًا.. فمن يسرق وينهب لا يُحترم.
نأتي الآن إلى “المعارضة” ومن كانوا في الخارج قبل عقود، الذين دخلوا ليبيا بنوع من الانتقام، ليس من تركة القذافي؛ بل من ليبيا نفسها. دخلوا البلاد دون أي مشروع، لا أفكار ولا خطط، وبعضهم حين استقال أو تم إبعاده، عاد للمكان الذي جاء منه، وهذه نتيجة حتمية، تكشف لنا من كان لديه انتماء ومن ما زال يبحث عن الانتماء.
4
كلنا تغيّرنا وأصبحت أفكارنا تتبدل مع كل مرحلة، كلنا أخطأنا وكلنا أفسدنا معنى أن يكون لنا بلد ننتمِي إليه، لا وطن، لأن الوطن قيمة عالية جدا.
لا عيب في نقد فبراير الثورة، لا خجل في الاعتذار أو المراجعة الفكرية. وهذا لُبّ الأزمة التي نعيشها اليوم، التي يتم تسميتها بأنها أزمة “سياسية”، مع أنها لا تنتمي إلى السياسة في شيء، ما تعيشه ليبيا اليوم، أزمة أمنية وأخلاقية.
ما زلنا نُكابر ونسميها “أزمة سياسية”، مع أن المتأمل للوضع فيها، سيكتشف العكس تمامًا. مدن مهزومة تحاول النهوض ومدن منتصرة وتعيش الوهم منذ عشر سنوات. ليبيا ما تزال تعيش العام 2011، لم تتحرر منه، لم تتصالح مع واقعها الجديد.
5
من أنتم؟!.. عمر السؤال عشر سنوات، من عمر الهتاف “يا قذافي موت موت الشعب الليبي كله خوت”.
غير أننا لم نكُن إخوة طيلة السنوات الماضية، لم نحب بعضنا بعضا، ولعلنا كذبنا حتى في هذا الهتاف، وهذه أزمة لوحدها.
6
أعتذر عن هذه الإطالة، وأختم بالقول:
احتفل بثورة فبراير، كما ترغب، جهّز نفسك للفرح، صحبة أصدقائك أو أسرتك، ابتسم وحاول أن تسرق لحظة فارقة تُنسيك المآسي التي تعيشها، لكن عليك أن تكون مستعدا، لما بعد الاحتفال، وأنت تعود لبيتك، بعقلك لا بعواطفك، تمرّن على عدم الصراخ، تمرّن على عدم لفظ مفردات مثل “الأزلام” “الطاغية”، تمرّن على أن تحتفل بهدوء، وأن تسرق لحظات فرح أنت وحدك من يحتاجها، لا القادة القهر ومن جاء من بعدهم، ولا تنسى سرت أو المدن المنهزمة، لأنك ستحتاجها ربما أكثر من الثورة.