فالح عبد الجبار ومسألة العراق
د. رضوان السيد
أول مرة اتصل بي فالح عبد الجبار في أواخر الثمانينيات بوساطة فخري كريم، ما كان يريد مني شيئاً يتعلق بالإسلام أو بالسنة والشيعة، بل كان يريد سؤالي عما إذا كنتُ أملك نسخةً ألمانيةً من كتاب رأس المال لكارل ماركس، باعتبار أني درستُ في ألمانيا، ومشهور بحب جمع الكتب. وقلتُ إنني أملك نسخة، إنما ماذا تريد منها وأنت لا تعرف الألمانية؟ فقال إنه ترجم رأس المال عن الإنجليزية مرةً أُخرى، وقد قيل له إنّ ترجمته بها أخطاء ويريد مراجعتها بألمانيته المتواضعة. المهم أنّ نسخة رأس المال، صارت بدايةً لصداقةٍ طويلة، وعندما توفي رحمه الله ببيروت قبل شهر، كان ذلك بعد رؤيتي له بأسبوع، وقد أحسستُ حينها بمرضه.
أما المرة الثانية التي رأيتُه فيها فكانت بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد عام 1997، ووقتها قدّم عرضاً لكتابه الجديد عن شيوخ العشائر وشيوخ الدين بالعراق. وأخبر الحاضرين أنه يعمل على المحليات العراقية مثل البصرة والناصرية وإقليم كردستان. وما انقطع تواصلنا بعد عودتي إلى بيروت وعودته من بريطانيا. وقد كانت بيروت إدماناً لكل العرب وبخاصةٍ العراقيين والسوريين والفلسطينيين، لكنّها بالنسبة لفالح ما كانت ملجأً أو مقهى، بل مركز بحث وتعلم وتدريب ونشر. وهكذا في بيروت ومن بيروت توالت دراساتُهُ عن العراق أيام صدام حسين وما بعده. والفرق بين ما قبل وما بعد، أنه صار بوسعه الذهاب إلى العراق الذي غادره في مطلع الثمانينيات، لكنه بعد خمس سنوات توقف عن الذهاب للعراق مجدداً، وما عرفتُ منه لماذا هذا التوقُّف، وهل تعرض له أحد؟
كان الغريب في فالح، إضافةً إلى انهجاسه بالعراق، أنه اهتمّ للحساسيات الدينية، قبل تركيز اهتمامه على المسألة القومية. لقد أدرك بعمق معنى الثورة الإيرانية، وما أحدثته من تغييراتٍ في الدين بعامة، وفي التشيع بخاصة. وقد قال لي إنّ أول اهتمامه بدراساتي يعود إلى ما ذهبتُ إليه لأول مرة في كتابي «الإسلام المعاصر» (1987) من أنّ الإحيائيتين السنية والشيعية هما من جذرٍ واحد، وسيظل لنجاح الثورة الإيرانية أثر باق على الشيعة والسنة بالعراق! لذلك فهو كما قال لي عندما كتب دراسته عن عشائر الفرات الأوسط، وعلاقات زعمائها بالنجف، إنما كان يتحدث عن القديم القديم الذي لن يعود. وإنما القادم القادم هو الشعبويات الجارفة والقاتلة لدى الطرفين. وقد ظلَّ فالح ولأكثر من عشر سنواتٍ يُحلِّل الظواهر الإسلامية المتطرفة وكوارثها بالعراق لدى الطرفين. وأحسب أنه كان بين أول من تنبه إلى عودة قضية الخلافة، إنما ليس بطريقة عبد الرزاق السنهوري، ولا «الإخوان المسلمين».
شغلته أولاً مسألة الإمامة المتجددة عند الشيعة، وما قبل مني أن الفكرة والظاهرة جديدتان تماماً رغم تاريخ الغيبة وظهور الفقهاء. لكنه عاد فانتبه إلى أنها عادت فظهرت عند السنة ذاتها تقريباً، أي باعتبارها ركناً من أركان الدين. وقد مات بعد ظهور كتابه عن الخلافة بشهرٍ أو شهرين.
ما كانت المسألة الدينية مطروقةً بإتقان لدى الشيوعيين العرب. لذا كان فالح من بينهم متميزاً لهذه الناحية. لكنّه عاد مثل غيره إلى المسألة القومية، وكانت بالنسبة له كما بالنسبة لغيره هي المسألة الكردية بعينها. والشيوعيون العراقيون كانوا يريدون استقلال كردستان. على أنّ المسألة تجاوزت العقائد والسياسات إلى المعاش والمعيش. ففي حياة كل المعارضين العراقيين منذ 1991 حقبة كردية. بسبب فرض الأميركان منطقة حظر للطيران هناك وحمايتها، حيث ازدهرت المنطقة الكردية وزاد ازدهارها بعد الغزو الأميركي. وفي 2011 رأى فالح بيدي روايةً لكاتب تونسي عنوانها «العودة إلى ترشيش» (الاسم القديم لمدينة تونس، والاسم الحالي لقريتي)، فضحك وقال: أما أنا وعراقيين كثيرين فعلينا أن نكتب رواية جماعية عنوانها العودة إلى أربيل أو كردستان! وأردف: ما عادت الحياة تُطاق في بغداد، ولا في المدن الأُخرى بعد خروج الأميركيين، فالعراقيون شيعةً وسنةً مصممون على تدمير ديارهم وعيشهم ودولتهم، والإيرانيون يتحدثون عن سيطرتهم الكاملة دون أن يعني ذلك استقراراً أو حياةً عادية!
حَيَّر فالحاً إصرارُ البارزاني على إجراء الاستفتاء، وكان يظنّ أنّ عنده ضمانات أميركية وروسية. إنما قبل شهرٍ من وقوع الواقعة، قال لي إنّ جماعة السليمانية اتفقوا مع إيران والعبادي على بني قومهم، ومرةً أُخرى ضاعت فرصة استقلال كردستان! صحيح أنه في شهوره الأخيرة كان منهمكاً في إنهاء كتابه عن الخلافة، لكنه في كل لحظة كان يعتبر أنّ عمره ضاع في انتظار استقلال كردستان، وها هو يوشك أن يموت والأكراد ينقسمون وقد يتقاتلون كما حصل سابقاً، وقال: العراق فيه أكثر من «داعش» واحدة!