غياب الليبيين من أوشي إلى برلين
سالم العوكلي
أول معاهدة دشنت بخصوص ليبيا، ودون مشاركة الليبيين أو حتى علمهم بها، كانت معاهدة أوشي لوزان بين مملكة إيطاليا والدولة العثمانية، عقدت في قلعة أوشي بضواحي لوزان السويسرية، العام 1912 ، سلمت تركيا بموجبها ليبيا لإيطاليا على طبق من الرصاص، وتركت أهلها وحدهم في مواجهة الغزو الإيطالي.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد أكثر من قرن على هذه الجريمة التركية: لماذا تتعامل ما يسمى حكومة الوفاق بطرابلس بشكل حميمي وتعاون كبير مع أمتين كانتا مستعمرتين لليبيا؟. إيطاليا التي كانت تعتبر ليبيا شاطئها الرابع يتجدد هذا الحلم مع اليمين اٌلإيطالي الجديد، وتركيا التي كانت تعتبر ليبيا أيالة من أيالات إمبراطوريتها، يتجدد هذا الحلم مع أردوجان الذي عبر صراحة عن حقه التاريخي في ليبيا وعن حقه الشخصي بمساعدة أخوة له في ليبيا. كيف يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه فتوقع حكومة الحكم الذاتي في مصراتة اتفاقات دفاع مع إيطاليا، وتوقع حكومة السراج في طرابلس اتفاق دفاع مشترك مع تركيا؟
فلماذا تستفز المشاعر الليبية بهذا التحالف مع قوى مازلنا نعاني من رواسب ومخلفات احتلالها لليبيا. قوى فتكت بالليبيين وحولتهم إلى عبيد صخرة لمشاريعها التوسعية وجندتهم للقتال معهم في حروب أخرى فتكت بألاف الليبيين . قوى مازالت جراحها في الجسد والوجدان الليبي لم تلتئم.
هل الأمر نكاية في غومة المحمودي وعمر المختار وكل من ضحوا بأرواحهم دفاعا عن الهوية الليبية ضد هذه القوى التي ألغت يوما ليبيا من على الخارطة، وتعود الآن طائراتها المسيرة تجوب سماء ليبيا ومدرعاتها تدوس عظام أجدادنا تحت التراب الليبي.
أفهم أن سياسة تركيا تتبع من الحلم الأردوجاني الخاص بعثمنة المنطقة والذي لا يجد ذخيرته في جماعات الأخوان المسلمين في المنطقة كتنظيمات إسلامية معادية لانبعاث أي حس قومي عربي، وأتفهم خوف الطليان من المخزون البشري في مدن الغرب من المهاجرين الذي يمكن أن يندس بينهم ذئاب إرهابية منفردة، كما يمكن أن اتفهم أن اليمين الإيطالي الحاكم ما عاد يتبع هوجس موسيليني الرومانية لكنه بواقعية صار يركض خلف أحلام شركة إينو والسيطرة على مصادر الطاقة في شاطئها الرابع.
أفهم أن كل الأطراف تستعين بدعم من قوى إقليمية أو دولية، ولكني افهم أيضا أن بعض القوى المتدخلة لم يكن لها يوما مجازر في ليبيا ولا ماض استعماري، ولم تعلن أن ليبيا أيالة من أيالاتها أو شاطيء تابع لها، أو بحجة دعم أخوة لها في ليبيا، وهي تتدخل من باب مصالحها، سواء الأمنية أو الاقتصادية أو السياسية، وهذا ما يحدث الآن في العالم كله، ومن الممكن أن يكون هذا الأمر معلنا باعتباره تحالفا دوليا ضد الإرهاب، لأن من يسيطر فعلا على طرابلس جماعات إرهابية سواء انضووا تكتيكيا تحت سلطة الحكومة التي لا حولها ولا قوة أمام ميليشيات مدججة بما يكفي لتسليح أي جيش أفريقي، وسواء لبس جناحهم السياسي بدلات السويت وربطات العنق ، أو تنكروا في وزارة داخلية يرأسها أحد أمراء حرب فجر ليبيا التي قوضت مسار الدولة المدنية.
فمهما تمتع غربال الكذب بتقنيات إعلامية وبأموال تصرف على شركات دعائية لا يمكنه أن يغطي عين الشمس، فما تروج له شركات الدعاية الكبرى، وما تقوله وسائل إعلام الميليشيات ومفتيها، تفنده تقارير الاستخبارات التي أصبحت تدرك جيدا أن من يسيطرون على العاصمة ليسوا خطر على ليبيا فقط، ولكن على كل المنطقة وعلى الشواطئ الأوربية، خصوصا وهم يدركون أنه في حالة طردهم من آخر معقل لهم في إدلب لن يشتقبلهم مكان في العالم سوى في طرابلس ومصراتة المخطوفتين من زعماء متطرفين كان بعضهم يحارب في سوريا أو يصدر لها الجهاديين، ويعرفون أن المخابرات التركية قادرة على توفير الدعم اللوجستي لهم طالما مطارا معيتيقة ومصراتة يستقبلان الرحلات من أنقرة واسطنبول.
وطرابلس المخطوفة ومنذ عملية فجر ليبيا لم تتوقف فيها حروب الميليشيات وصراعها على الأحياء، وجرائم الخطف والاغتيال والايتزاز والتهريب والمتاجرة بالبشر حتى عندما كان الجيش يبعد عنها ألف كيلومتر وهو يقاتل فروع الجماعات الإرهابية في مدن الشرق، وللأسف ومثلما حدث في إدلب أصبحت طرابلس الملاذ الذي يرحل إليه الإرهابيون من كل المدن الليبية التي يتم تنظيفها منهم، والفارق أنهم في طرابلس يسيطرون على مدينة يوجد بها البنك المركزي ومؤسسة النفط ويستخدمون حكومة ورقية واجهة سياسة لهم أمام العالم، لكن المآل واحد وهو تجمعهم في الشمال الغربي الليبي تحت حماية ودعم تركيين مثلما تجمعوا في الشمال الشرقي السوري تحت حماية ودعم تركيين.
وهذا هو جوهر الخلاف الذي مازال يؤجل مؤتمر برلين ، بين قوى ترى مصالحها في بقاء الحال كما هو في طرابلس أو إنقاذ حلفائهم من أمراء الميليشيات وسدنتهم من ذوي ربطات العنق، وبين دول تدرك جيدا أن من يسيطر على طرابلس هم قوى ظلامية خطرة ، ولا إمكانية لحل سياسي إلا بعد تفكيكها ونزع السلاح منها. دول تعرف أن طرابلس لا تختلف عن الموصل أو الرقة أو إدلب وأن المطالبات الشكلية بوقف إطلاق النار لا تنكر حقيقة الأمر المعقد على الأرض.
مؤتمر برلين هو ثالث مؤتمر أو اجتماع ــ عبر التاريخ الليبي ــ يُعقد في أوروبا من دون حضور الليبيين، بعد اتفاق أوشي لوزان 1912، واتفاق بيفين سفورزا 1949 كمشروع تم فيه الاتفاق على أن توضع أقاليم ليبيا الثلاث تحت وصاية دولية، تتولى بريطانيا الوصاية على برقة، وإيطاليا على طرابلس، وفرنسا على فزان. فهل سيكون مؤتمر برلين مشروع اتفاق جديد، يوقع في غياب الليبيين، لوضع ليبيا مرة أخرى تحت وصاية الدول المشاركة وفق ترتيب مناطق نفوذها ومصالحها؟.
أما الحرب الباردة المعلنة بين روسيا وأمريكا في الملف الليبي فهي تأتي في سياق تمارين عودة أجواء الحرب الباردة التي بدأت تجاربها الأولى في سوريا، بعد أن رأت القوى الكبرى أن أفضل طريقة لترتيب فوضى العالم بعد سقوط جدار برلين هو عودة هذا التماحك الثنائي من جديد الذي يحقق مصالح القوتين اللتين يشكل عداؤهما نوعا من التحالف الضمني، خصوصا وأن القطب الذي اخترعته أمريكا بديلا للمعسكر الشرقي
كان وفق استراتيجياتهم التطرفَ الإسلامي الذي يبدو أن صلاحيته كقطب انتهت وأصبح مزعجا لكل العالم. وفي لعبة الكراسي هذه لا سبيل لخروج هذا القطب الثالث من اللعبة إلا بعودة ما سمي الحرب الباردة وإن كان بشكل مختلف وبقوى غير متوازنة حتى الآن، فأمريكا تدرك أنه لم يعد بإمكانها أن تكون شرطي العالم الوحيد، وهذا ما أعلنه ترامب صراحة حين ترك الملف السوري في عهدة روسيا مؤكدا أكثر من مرة أن الولايات المتحدة ليست مسؤولة عن نزاعات العالم.