عن «القانون» الذي سمح لسيف الله حبيب بدهس أبرياء في نيويورك
حازم الامين
استفاد منفذ عملية الدهس في نيويورك، قبل نحو ثلاثة أسابيع، الأوزبكستاني سيف الله حبيب من قانون الجنسية بالقرعة، وهو قانون برنامج تنفذه الحكومة الأميركية وتعطي الجنسية الأميركية بموجبه لخمسين ألف متقدمٍ لطلب الجنسية كل عام. وما إن كُشف عن هذا الأمر حتى بدأت أميركا تُراجع جدوى هذا البرنامج. فالرجل قال إنه نفذ العملية لمصلحة «داعش»، وهو قدم إلى الولايات المتحدة في 2010، أي قبل ولادة التنظيم الإرهابي.
هذه دوامة تغرق فيها الدول والمجتمعات في أعقاب كل عمل إرهاب، وهي إذ تباشر التفكير في سيرة منفذ العملية، لا تستأنفها من النقطة التي وصلت إليها في المحطة التي سبقتها.
هو مسلم أوزبكي مهاجر عبر قانون القرعة، إذاً فلنبحث في الإسلام وفي قانون القرعة. منفذ عملية الملهى الليلي في فلوريدا العام الفائت كان أميركي المولد من أصول أفغانية، إذاً فلنذهب بالبحث إلى هناك. أما ما يربط بين السيرتين وبين سير عشرات أخرى من القتلة، فهذا ما لا تطمح سرعة التفسير والاستنتاج إلى البناء عليه.
والحال أن هذه السرعة تنحو في تدفقها على مشهد العملية المنحى ذاته الذي اعتمده المنفذ. ذاك أن العملية تتطلب قدراً من السرعة في التنفيذ لا يمكنها أن تنجح من دونه. السرعة تقتضي مخاطبة زمن السرعة الذي نعيشه. وما الذهاب إلى ماضي المنفذ وسرعة البناء عليه، سوى ضرب من ضروب زمن السرعة الذي نعيشه، لا سيما إذا كانت نيويورك مسرح العملية، ومسرح التفكير فيها.
الماضي هنا يلبي الرغبة في سرعة التفسير. إنه قانون منح الجنسية عبر عملية قرعة تجريها الحكومة. القانون غريب من دون شك، لكن الأغرب منه أن تُفسر عملية إجرامية به. الرجل جاء إلى أميركا منذ سبع سنوات، وهو لم يُنفذ جريمته إلا اليوم. أمضى 2500 يوم في نيويورك، وبعد ذلك نفذ عمليته. ماذا لو فكرنا مثلاً أن المسؤول عن ذلك قيام «داعش» في العراق وسورية، وليس قانون الهجرة بالقرعة! ألم يعثر في الشاحنة على رسالة قال فيها إنه نفذها لمصلحة «داعش»؟
الأرجح أن أميركا تتفادى الوصول في تفكيرها إلى حقيقة أن «داعش» في سورية والعراق وليبيا يمكن أن يكون نموذجاً يُحتذى في أميركا. فالأخيرة محصّنة بحسبها من اهتراء يتيح اختراقها بمجرم. إنه قانون الهجرة الذي أعطى الجنسية لسيف الله حبيب، أو هو الإسلام الذي اصطحبه والد عمر متين معه قبل عقود إلى أميركا، وأورثه لابنه، علماً أن عمر تحول متديناً في أميركا في حين لم يعرف عن والده دخوله مسجداً.
على نحو ما يصل الإسلام العنفي، سريعاً ومتعجلاً الجنة والقتال، إلى مسلم سابق في أميركا، قد تصل أميركا إلى استنتاج بأن قانون الهجرة بالقرعة هو ما تسبب بعملية الدهس. فأميركا غير حقيقية على قدر ما هي قوية. في أعوام قليلة انقلبت من باراك أوباما إلى دونالد ترامب. وهي في سرعتها هذه لا تُبقي مساحة لغير ما تقول. «داعش» ليس أميركياً ولا غربياً، إنه ابن ثقافة أخرى. لا أحد فيها يريد أن يُناقش المسؤولية الموازية لمسؤولية المسلمين عن ولادة هذا المسخ. حالها في ذلك مشابهة لحالنا. الجميع يتقاذف أبوة التنظيم، في وقت لا يحتاج المدقق إلى وقت طويل لكي يرى وجوهنا جميعاً حاضرة في وجه التنظيم القبيح.
وأن تكون هذه حالنا نحن أبناء الحروب الأهلية والقبلية والمذهبية، فهذا أمر يمكن المرء أن يفهمه، ذاك أن قصورنا عن معرفة أنفسنا جلي، ورغبتنا في دفع المسؤولية عن أنفسنا لا يوازيها سوى رغبتنا في تقمص المسخ ليلاً بعيداً من أعين الآخرين. أما أن تكون هذه حال أميركا، وحال دول غربية أخرى من المفترض أنها قطعت أشواطاً في التفكير بنفسها وبأحوالها، وهي تتولى اليوم المسؤولية عن قيم العيش بعيداً من هذا المسخ، ففي الأمر ما يخيف فعلاً. أن لا يكون الغرب قد انتبه إلى أن «داعش» غربي أيضاً، وأنه من أمراض التحديث والتقدم والسرعة، وابن فشل أصلي في النظام العالمي، فهذا يدعو إلى القلق فعلاً.
عندما يحضر «داعش» ونسخه المتوالدة، تحضر بلادة غير مفهومة فعلاً في محاولات فهم أشكال عمله. فالغرب لم يُصب بالذهول نتيجة تمكن آلاف من أبنائه من أصول مهاجرة ومن غير المهاجرين من الالتحاق بالتنظيم. أكثر من ألفي فرنسي ومثلهم بريطانيون وبلجيكيون وهولنديون، ومئات من الأميركيين، لم يجدوا صعوبات تذكر في الالتحاق بـ «داعش». الدول المصدرة لم تتعلم من تجارب أفغانستان والعراق. رفعت الصوت عندما بدأت العمليات تطاولها، ولم تقترب من نفسها في التفكير بما جرى لها.
إذا كان الماضي مسؤولاً عن دوافع المنفذين في الغرب، فإن الحاضر أتاح لهم أن ينفذوا مهمتهم. العمليات، لا سيما عمليات الدهس، تشبه شيئاً من حياتهم في الغرب. السرعة والسهولة، والثواني القليلة التي يقررون فيها مصيرهم ومصائر ضحاياهم، تنطوي على تماهٍ ما مع لحظة تعيشها المدن الحديثة التي يقيمون فيها. الإسلام أبطأ من أن يكون دافعاً وحيداً، وآباء المنفذين لم يورثوهم شيئاً، لا بل أورثوهم فراغاً هائلاً. ونظام العيش في الغرب لم يملأ هذا الفراغ، بل أتاح سهولة اختراقه من وراء الحدود ومن وراء الثقافة الغربية غير المهيمنة على أهلها.
سيستمر المجرمون الجدد بترك رسائل في الشاحنات التي يدهسون فيها بشراً، يهدون فيها أفعالهم إلى «داعش»، حتى بعد القضاء عسكرياً على التنظيم، ذاك أن الأخير سيترك لهم فكرة ستكون أقوى من هياكله المدمرة. وهذا ما سيكون كاشفاً فشلَ المتوهمين أن النصر في الحرب على الإرهاب تم إنجازه بعملٍ عسكري.
وأن تتوهم حكوماتنا وأحزابنا وطوائفنا ذلك، فهذا أمر غير مستغرب في ظل حقيقة عيشها في عمق الحروب الأهلية المتناسلة. أما أن يتوهم الغرب ذلك، وأن يبدأ البحث عن الإرهاب بعيداً من نفسه، مثلما نفعل نحن تماماً، فهذا يعني أن العالم ليس بخير.
…………………
الحياة