ظاهرة العنف وجور التفسير
فهد سليمان الشقيران
لفت نظري مؤخراً أحد المثقفين العرب وهو يحاضر عن العنف؛ طوال حديثه كان يبرئ المسلمين من أي مسؤولية تتعلق بالأفكار المتطرفة، وينزع عنهم أغلالها، ويضع عنهم أوزارها؛ أسلوبه قديم شعبوي يدغدغ مشاعر الحاضرين، ويشعرهم بأن العنف مخطط استكباري استعماري إمبريالي مسؤولية تأسيسه تقع على عاتق القوى العظمى، وترمي بكل حمولة العنف والإرهاب بتاريخه الحديث على قصة الدعم الأميركي للمقاتلين الأفغان، ثم دور الاستخبارات الأميركية بتأسيس تنظيم القاعدة.
وحول داعش فإنها بحسبهم منظمة صنعتها أميركا لتشويه الإسلام ودعمتها دول إقليمية لإطفاء شعلة الربيع العربي. وحول هذه التفاسير الجنونية الخيالية يدور كتاب روبرت دريفوس بنحو ألف صفحة وبعنوان: «لعبة الشيطان – دور الولايات المتحدة في نشأة التطرف الإسلامي» وقد لقي رواجاً لدى مجاميع إسلامية، وتبنى منهاجه التآمري بعض المثقفين العرب، إنه كتاب فانتازي بامتياز.
أسلوب سهل، أن تقدم مبررات ومرافعات للنجاة من المسؤولية عن أفكار العنف، وأن تضع عن كاهلك وزر تشجيع التطرف، وإنعاش سبل الإرهاب تعليماً وعملاً، ولكن هذه الممارسة تعبر عن الخوف والهلع والجبن من مواجهة الواقع، وآية ذلك أن الكثيرين لا يقرأون العنف بوصفه جزءاً من التاريخ منذ القرن الأول، ولم تتم معالجته فكرياً بالشكل المطلوب، فالعنف ليس ظاهرة حديثة، بل جزء من تاريخ المجتمعات، كما نقرأ مع الفيلسوف رينيه جيرار «العنف والمقدس»، أو نطالع تنظيراً مميزاً لدى حمود حمود في كتابه: «بحثاً عن المقدس»، أو مع أوليفيه روا «الجهل المقدّس»، أو «التضحية غير المجدية: بحث في العنف السياسي» لأستاذ الفلسفة في جامعة ريتسوميكان في مدينة كيوتو اليابانية بول دوموشيل، كل ذلك ينطلق من بحث حول الثيمة المشتركة لتاريخ المجتمعات والأتباع بما يتعلق بممارسة العنف من قبل المتطرفين في المسيحية والإسلام وبقية المذاهب والتوجهات والنزعات القومية أو العرقية.
من الأخطاء الكارثية معالجة العنف بوصفه ظاهرة جديدة من دون الرجوع لتاريخ بشري ضارب في العنف والقتل، لنقرأ بتاريخ الفتن ومشكل الخليفة، وأدوار القبيلة، ومن ثم ثقافة الاستئصال للآخر، وآليات الانتقام والاغتيال، وأدبيات التعذيب وشرائع الدم، لنتجه نحو كتب كلاسيكية مثل: «المحن» لأبي العرب التميمي، أو «موسوعة العذاب» لعبود الشالجي بأجزائها السبعة؛ كل ذلك يبين مستوى تغلغل ثقافة العنف بالتاريخ البشري… الفرق أن مجتمعات استطاعت من خلال تجارب كبرى سياسية وفلسفية وقانونية أن تتجاوز ذلك التاريخ الدموي لتدخل إلى مسارات أخرى يكون معها ذلك التاريخ مجرد طيّات تقرأ وحكايا تروى.
يمكن للقارئ استذكار عشرات المحاضرات والندوات الرامية لأدوائها الأصيلة على الآخر المتآمر الغريب، بيد أن تلك الممارسة تجعل المشكلة تكبر من دون اجتراح أي حلٍ أو مقاربة أي تحليل يجعل الشجاعة المعرفية فوق التبرئة العاطفية، ومردّ كل ذلك بنظري إلى الجهل بالتاريخ، وعدم إدراك دور العنف بتأسيس الثقافة المعاشة، وتبويب بعض المسائل الفقهية، وترسيخ الكثير من النظم الاجتماعية، والعنف مرده ليس دينياً دائماً وإنما تندغم مع سياقات إشكاليات قبلية، وأخرى سياسية، ومآرب ذاتية. وأشير إلى كتاب مهم لحميد بوزارسلان أستاذ الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في جامعة باريس بعنوان: «قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط من نهاية السلطنة العثمانية إلى تنظيم القاعدة»؛ والكتاب لا يهمل التوجهات السياسية، والنزعات الثورية، والموضات اليسارية وتقاطعها مع منظمات العنف الإسلامية بكل أطيافها. بمثل هذه الكتب المنهجية ينزع المثقف عن عينه غشاوة الهوس التآمري، والعته الشخصي، والقحط المعرفي.
فيلسوف كبير مثل جون لوك، ساهم في رسم مسار الخلاص للمجتمعات من العنف بسبب نظرياته السياسية، ومنها العقد الاجتماعي قام بتأليف رسالته المشهورة في «التسامح» أواخر القرن السابع عشر، وفيها يقول عن العنف: «إنه ليس كافياً أن يمتنع رجال الدين عن العنف والنهب وكل أساليب الاضطهاد، فمن يزعم أنه خليفة الرسل، وأنه مكلف التعليم فإنه ملزم أيضاً بتذكير مستمعيه بالتزامات السلام والإرادة الخيرة تجاه البشر، ونجاة الضالين كما هو تجاه مستقيم الإيمان، ونجاة الذين يخالفونه في الإيمان والعبادة، كما هو تجاه الذين يوافقونه، ثم إن عليه أن يجهد نفسه في حث البشر سواء كانوا جنوداً أو حكاماً على المحبة والوداعة والتسامح، وأن يحاول دائماً تليين الحمية والكراهية التي تشعلها غيرته على ملّته، أو خبث الآخرين».