طريق ليبيا إلى الصندوق!
سليمان جودة
انقضى صيف هذه السنة، ونوشك أن ندخل في خريف العام، ومع ذلك، لا تزال الصورة التي جمعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بأطراف العملية السياسية الليبية، في عز أيام الصيف، حاضرة أمام العين، وكأنها كانت صباح أمس، لا أول من أمس، ولا ما قبل أول من أمس!
ولِمَ لا؟… والأجواء التي أحاطت بالمناسبة كانت متفائلة، بقدر ما كانت الآمال المعقودة عليها عريضة، وبمثل ما كانت الروح التي رفرفت على أرجاء المكان في العاصمة الفرنسية باريس، حيث التقت الأطراف كلها، روحاً إيجابية يتغلب فيها الأمل على ما عداه؟!
ولأمرٍ ما، بدت الدعوة التي تبناها اللقاء، طوق نجاة يلوح في الأفق أمام القارب الليبي، الذي تتقاذفه الأمواج العاتية بشدة، وتضربه بعنف، فترمي به في كل اتجاه، إلى أن تدفعه نحو شاطئ يرسو عليه، لعله يتبين حقيقة الوجهات أمامه، لا أكثر!… كانت الدعوة في ختام اللقاء إلى انتخابات تجري في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، ولأن الأحداث المتفجرة في الأراضي الليبية، منذ ما لا يزال يسمى بالربيع العربي، قد أرهقت متابعيها بأشد، ربما مما أرهقت الليبيين أنفسهم، فإن الذين سمعوا بالدعوة عند الوهلة الأولى قد تشبثوا بها، ليس لأنهم كانوا على يقين من أنها ستمثل نهاية قريبة لسنوات الوجع الليبي، ولكن لأنها إذا لم تكن كذلك، فهي تبقى فرصة سانحة لالتقاط الأنفاس في أقل القليل!
وفيما بعد الوهلة الأولى، اتضح أن الدعوة رغم حُسن نياتها، لا تستقر على أرض تحتها بقدمين ثابتتين، فهي كانت دعوة حالمة، أكثر منها أي شيء آخر، ولا أحد يعرف على وجه اليقين، ما إذا كانت الأطراف المختلفة قد رفضت لهذا السبب التوقيع على بيان ختام اللقاء، رغم موافقتها عليه من حيث المبدأ، وعلى مضمونه، وعلى ما جاء فيه، أم أن رفض التوقيع كان له سبب آخر بخلاف السبب المعلن وقتها، وهو رغبة كل طرف في العودة إلى قاعدته الشعبية في ليبيا، على سبيل التشاور واستطلاع الآراء!
لا أحد يعرف… ولكن الذي نعرفه أن باريس بالذات، يجب ألا تدعو إلى انتخابات من نوع ما دعت الأطراف إليه، إلا إذا كانت على يقين من أن الأرض التي تدعو إلى انتخابات عليها، تستطيع أن تستقبل عملية انتخابية مكتملة، وأن تكون هذه العملية ناجحة ومؤدية إلى غايتها الأخيرة، وهو ما لا يراه متابعون موضوعيون، يعرفون أن الانتخابات تجري في سياق… لا في فراغ!
إنني أستخدم كلمة انتخابات هنا، مقرونة بكلمة عملية، عن قصد، لأن يقيني هو أن الانتخابات الناجحة سواء كانت في ليبيا، أو في غيرها، هي عملية مكتملة العناصر، وهي عملية مؤدية إلى غايات وأهداف، وليست مجرد صندوق اقتراع يوضع في مكان، لاستقبال أصوات الناخبين، والسلام… لا… ليست هكذا، ولا كانت، ولن تكون… والفرنسيون يعرفون هذا بالقطع، لأنهم أدرى الناس به، عبر تجارب الرؤساء الذين سبقوا في تاريخ الجمهورية الخامسة، من أيام مؤسسها شارل ديغول، وصولاً إلى ماكرون الذي يتربع في قصر الإليزيه!
صندوق الاقتراع حلقة من حلقات سابقة، وأخرى لاحقة، وكلها يضمها إطار واحد، وجامع، ولا يوجد منها في ليبيا بحالتها الراهنة سوى حلقة الصندوق حين يوضع في مكانه يوم الاقتراع، فلا شيء قبله يؤدي إليه، ولا شيء بعده يأخذ منه ليترجم على الأرض… وبالتالي، فإجراء الانتخابات في العاشر من ديسمبر، دون التأسيس بجد لما قبل، ولما بعد، أشبه ما يكون ببناء قصر فوق رمال!
أما ما قبل، وأما ما بعد، فهو روح عامة تسكن المؤسسات القانونية والدستورية، وهو تربية سياسية ممتدة عبر أجيال، وهو نوع من التراكم من جيل إلى جيل، وهو حكومات متتالية تضيف كل حكومة منها إلى ما أسست له الحكومة السابقة عليها، وهو عمل سياسي طويل النَفَس لا يعرف الانقطاع، ولا التوقف، ولا المهادنة، وهو ثقافة عامة مستقرة لدى الرأي العام، تجعل أفراده قادرين على أن يمارسوا حقوقهم السياسية دون تأثير، ودون توجيه، ودون ضغوط!
ما قبل الصندوق، وما بعد الصندوق، هو هذا كله، وأساسه في فرنسا، مثلاً، باعتبارها الدولة الداعية إلى الانتخابات الليبية، والمتمسكة بها في موعدها، يظل يتمثل في عبارة شهيرة كان فولتير، فيلسوف الثورة الفرنسية، لا يتوقف عن ترديدها في سنوات مطاردته بين إنجلترا، مرةً، وبين سويسرا على الحدود مع بلاده مرات، كان يعتز برأيه فيما يؤمن به ويعتقد فيه، ولكنه كان في الوقت ذاته يؤمن، وبالدرجة نفسها، بحق كل فرنسي في أن يختلف معه في كل كلمة يؤمن بها هو، بل كان يذهب إلى خطوة أبعد… إلى استعداده للتضحية برأيه، وفي رواية أخرى التضحية بحياته ذاتها، لعل الذي يختلف معه في الرأي يستطيع التعبير عما يراه!
هذه بالضبط هي الروح التي قصدتها، وأنا أقول إن ما قبل الصندوق، وما بعده في ليبيا، أهم من الصندوق ذاته وأجدى بكثير!
وإلا… فإن العاشر من ديسمبر سوف يعيد إنتاج الفاتح من سبتمبر (أيلول)، الذي جاء بالعقيد القذافي إلى الحكم! وليس هذا بالمناسبة ذماً في العقيد الراحل، فالرجل مضى إلى ربه، كما أن عصره ذهب إلى التاريخ، الذي سيقول وحده، فيما بعد، لا الآن، ماذا يُحسب للعصر، وماذا يؤخذ عليه؟!… ماذا على الليبيين في المستقبل، أن يأخذوا من أربعين سنة حكم فيها الرجل، وماذا عليهم أن يتركوا وراء ظهورهم؟!… ماذا يتبقى لهم من العقود الأربعة، وماذا يذهب قبض الريح؟!
إنني أعتقد في أن 25 يناير (كانون الثاني) 2011 على سبيل المثال، قامت في القاهرة على 23 يوليو (تموز) 1952 بالأساس، ليس أيضاً عن رغبة في ذم الأخيرة، ولا عن عداء معها، ولكن عن قراءة موضوعية للشعارات الثلاثة، التي كان الشباب قد رفعوها في الخامس والعشرين من يناير في ميدان التحرير، لقد كانت الشعارات الثلاثة صياغة جديدة تكاد تكون بالكربون، لمبادئ ثلاثة من المبادئ الستة، التي كان عبد الناصر ورفاقه قد رفعوها، وقت أن قاموا بثورتهم في منتصف القرن العشرين!… وكان معنى هذا أن المبادئ الثلاثة لم تتحقق من 1952 إلى 2011، وأنها بقيت حبراً على ورق في انتظار مَنْ يعيد رفعها من جديد، بعد مرور ستة عقود من الزمان، وبالذات المبدأ الذي كان يبحث، ولا يزال، عن العدالة الاجتماعية بمعناها الشامل والصحيح!
الفاتح من سبتمبر قاد البلاد إلى طريق مسدود، وعلى العاشر من ديسمبر… الفكرة لا اليوم… أن يقودها إلى آفاق مفتوحة على الدنيا!
نقلا عن: الشرق الأوسط اللندنية