صوان يسري إلى برق سلامة
سالم العوكلي
العام 2005 صدح أحد منشدي غناوي العلم بغناوة تقول (اغبطن بارقة شابيب .. سرن أذواد عقلي بلعقل) ولمن يصعب عليه الفهم ، فعادة ما تحدد الإبل موقعا عبر مراقبتها للبرق وتسري إليه ليلا كي تصل إلى ما يعد به من مراتع خصيبة، والمفارق في هذه الغناوة أن الإبل التي حددت أرض المطر وسرت إلى برقها كانت مُعقّلة (مربوطة بالعقالات التي تمنع حركتها) مثل أحلام الغناي.
قيلت هذه الغناوة استبشاراً بالمؤتمر الذي عقدته المعارضة الليبية في لندن العام 2005 ، حيث ظهر كبارق شآبيب توجهت له أحلام الكثير من الليبيين رغم القيد والقمع.
ما يعنيني من هذا الملتقى الذي أقلق النظام لدرجة الرعب، أن جماعة الإخوان المسلمين الليبية كإحدى القوى التي تطرح نفسها كقوى معارضة رفضت المشاركة فيه رغم وجود قادتها آنذاك في لندن، لأن المؤتمر كان ضمن بنوده مطالبة القذافي بالتخلي عن السلطة سلمياً والشروع في بناء دولة مدنية وفق دستور ديمقراطي، وكانت مشاركة جماعة الإخوان مشروطة بحذف هذه الجزئية، والسبب أن الجماعة دخلت منذ العام 2004 في برنامج مصالحة مع النظام السابق شرطه إدماجهم في السلطة، وتحول مريدوها فجأة إلى اللجان الثورية الجديدة التابعة لثورة سيف الإسلام الناعمة، حيث كان من المفترض أن تشكل أمانة لجنة شعبية عامة (حكومة) في مارس 2011م، نصفها من جماعة الإخوان التي مازالت تعمل بشكل شبه سري ولم تعلن عن جناحها السياسي بعد .
ومثلما تردد جماعة الإخوان في مصر بداية ثورة يناير وحافظوا على التواصل مع النظام إلى أن صرح باراك أوباما: على مبارك أن يرحل الآن، والآن تعني الأمس. تردد أيضا جماعة الإخوان في ليبيا، وحافظوا على هذا التواصل حتى صدور القرار الدولي من مجلس الأمن وضرب رتل القذافي على مشارف بنغازي، لتستلم القوى الداعمة للجماعة الملف الليبي كي يصل ذراعها السياسي إلى السلطة كما حدث وقتها في مصر وتونس، لتكون ليبيا بثرواتها الممول الرئيس لحكومات ما يسمى بالإسلام المعتدل في دول الجوار، وكانت الفكرة أن تضخ ليبيا 5 مليون برميل يوميا تحت حكم الإخوان كي تدعم مصر وتونس المقبلتين على أزمة اقتصادية. وهذا ما ظهر أخيرا في تسريبات ويكيليكس .
توقع المتابعون الفوز الحاسم لجماعة الإخوان في الانتخابات الليبية وشككوا في فوزها في تونس ومصر اللتين تملكان قوى سياسية منافسة، لكن ما حدث العكس تماما. فاز الإخوان في مصر وتونس وخسروا في ليبيا ثلاثة انتخابات متتابعة.
وفي النهاية خسر الإخوان في مصر بعد عام من الحكم الفاشل عبر تدخل الجيش بشكل مباشر، وتراجعوا إلى الخلف في تونس بسبب وجود قوى مدنية قوية أرساها نظام الحبيب بورقيبة .
لكن خسارتهم في ليبيا لم تكن بسبب جيش قوي، أو منظمات سياسية قوية، ولكن بسبب ناخب ليبي بسيط يتوجس تاريخيا من فكرة المتاجرة بالدين ، فهو لا يحتاج إلى من يدخله الجنة ولكن يحتاج إلى من يقدم له برنامجا عمليا لحل مشكلاته التنموية والخدمية المتراكمة، وكان هذا بالضبط ما قدمه برنامج التحالف الوطني الذي اكتسح صناديق الانتخابات.
خسر الإخوان في ليبيا وحلفاؤهم لعبة الديمقراطية، فقرروا اللعب بالمال وبالأجندات وبالإغراء وبالتهديد طالما المؤتمر الوطني الذي تمخض عن هذه الانتخابات في قبضتهم في العاصمة طرابلس، وأصبح التنظيم الذي يمثل أقلية في المؤتمر الوطني أغلبية مهيمنة، وانحرفوا بمهمة هذا الجسم الجديد إلى تحقيق مخططهم في التمكين الذي يجيدونه، فكانت البداية بإجهاض أي خطوة تسعى لإعادة ترميم الجيش الوطني، ثم إصدار قانون العزل السياسي لتنظيف الساحة من الكفاءات الوطنية ، بل أن تسخير هذا الجسم التشريعي تعدى ذلك إلى أغراض شخصية تمثلت في إصدار قرار يسمح لميليشيات مدينة ليبية بغزو مدينة ليبية أخرى في سابقة في التاريخ.
وافقوا على عدم التمديد للمؤتمر الوطني وخوض انتخابات برلمانية يدركون جيدا أنهم سيخسرونها، ولكن كان إصرارهم على أن يكون مقر البرلمان في بنغازي استمراراً للعبة القديمة، فبنغازي آنذاك كانت في قبضة ميليشياتهم الخاصة من قوة الدروع الإسلاموية التي يقودها إرهابيون سابقون، ومن حلفائهم من الجماعة المقاتلة وتنظيم أنصار الشريعة الذين تحول معظمه فيما بعد إلى مبايعة داعش، وبالتالي سيكون البرلمان الجديد طوع أمرهم، وستكون التوابيت بعدد أعضائه جاهزة في كل وقت من أجل إصدار قرار أو قانون يريدونه.
الخلاصة، أن الإخوان في ليبيا غير مقبولين على الإطلاق منذ البداية، وحتى حين لم يكن بينهم وبين الليبيين سجل سابق، ما بالك الآن وأغلب الليبيين يعرفون أن هذه الجماعة وداعميها وراء كل ما حصل في ليبيا من أزمات ومآسٍ، وأن الأمر بالنسبة للناخب الليبي لم يعد مجرد رفض مبدئي للمتاجرة بالدين، ولكن رفض لقوى ظلامية أعلنت عن مخططاتها التي لا تؤمن بفكرة الوطن أو الدولة المدنية حسب عقيدتها.
لم يصادر الإخوان الحاضر فقط لكنهم صادروا المستقبل عبر ما بدأ ينتشر في الرأي العام بترحيب بعودة الحكم العسكري خوفا من حكم الإخوان لنعود إلى المربع الأول.
ما حفزني لكتابة كل هذا إصرار الجماعة، ممثلة في جناحها السياسي حزب العدالة والبناء، ممثلا برئيسه صوان الذي قدم مذكرة سرية أخير إلى مبعوث منظمة الأمم المتحدة إلى ليبيا، السيد غسان سرمة، وباعتبار أن هذا التنظيم عمل طوال تاريخه بشكل سري وفي الظلام مازالت هذه المذكرة طي الكتمان، وهو سلوك يتناقض مع شفافية العمل السياسي أو الحزبي، ويؤكد على منهج هذه الجماعة الظلامية المتمثل في العمل في الظلام.
مشكلة القذافي أنه كان يعرف جيدا أن معظم الليبيين يمقتونه ولا يريدونه، وأنه يستمتع بفرض نفسه عليهم بالحيلة والقوة والأكاذيب، وهذا هو شأن “تنظيم العدالة والبناء” الذي يدرك جيدا أن الليبيين يمقتونه ويرفضونه ومازال مصراُ على الوصول إلى السلطة ولو تحولت ليبيا إلى ركام يجلسون فوقه.
وفي الحالتين ما يمنع هذا السلوك الشائن هو الخجل، ولكن من أين يأتي الخجل إلى طاغية قادم من هامش الهامش مهووس بالسلطة؟ ومن أين يأتي الخجل إلى تنظيم مراوغ يحيل الدين إلى سلعة تباع على الرصيف، ومستعد للتحالف مع الشيطان من أجل الوصول إلى السلطة؟.
إلى لندن العام 2005 سرت أحلام ليبية بسيطة، رغم القيد، إلى برق شكع هناك، لكن أذواد الأخوان الحرة التي كانت شرفاتها تطل على هذا البرق لم تذهب خطوات إلى هناك لأن برقها في ذلك الوقت كان يشكع في مقر باب العزيزية حيث يدار برنامج التوريث في صالحهم.