صمت الأجراف.. في رثاء داوود حلّاق
خليل الحاسي
تفقد الموجة عذريتها عند تكسرها على قساوة أجراف قورينا، فيعيدها بحر أبولونيا صورتها الأولى، كذلك تُضيِّع الحقيقة بريقها في كتب المؤرخين فيعيد لها الأركيولوجيون نورها من عتمة التاريخ.
من يصيخ لصمت الأجراف وحده الحصيف المنصت لفصاحة لغتها، ووحده القادر على قراءة محنتها بإقراره لسلطة الزمن المفضوح في شقوقها. الصمت نهاية الحديث، ومآل الفكرة، وظلّ التنهيدة، وجواب السؤال الذي لم يأتِ بعد. وما كانت الأجراف لتكون صامتة إن لم يكن لها في سابق وجودها لغة حكائية لا مقروءة. هذه اللامقروئية انتباهة يحين أوانها كلما أزف العمر وقبض التاريخ بصرامة على سرّه. هو داوود حلاق الذي ما انفك يطارد سر الخلود في محنة الحجر، مستنطقا صُموتات معابد قورينا وأبولونيا عندما يحين كلام الأساطير. وكأي بطل قوريني عصي على قوى الفناء مات في الزمن وعاش في الذاكرة، اختار حلّاق الشرف والأسطورة فغادر نقيا كنبع أبولو، وأسلم روحه بقلب صلب كفسيفساء كنائس “إريثرون” التي تروي حكايات المدن المعذّبة.
داوود حلاق الممسوس بقلق المعرفة لم يأن لسؤاله أن يذبل، وليست تنتهي حيرته حول سر القادمين من بحر أيجة على ظهر نبوءات كاهنة معبد “دلفي” حتى بعد ستة وسبعين عاما لا زالت دهشته في حديثه عن كفاح مرقص الإنجيلي تشهد أنه المسافر أبدا نحو بداية الأسئلة. فلا هو الذي يحفل بإجابات التاريخ الممضوغة في شفاه المؤرخين وليس يحتفي بسؤالات الحاضر والآن على لسان الفلاسفة.
اختار أن تكون كهوف الجبل الأخضر المعلقة معتكف نظرياته عن حياة الليبيين الهاربين من غيلان الأرض، وأشباح المجاعات والحروب.
أوحى إليه مرقص الإنجيلي في جوف الليل ذات رؤيا أن يمنح الخلاص لروحه السجينة في كنائس الإسكندرية، أن يعيد له هويته القورينية الضائعة في جغرافيا هذه الليبيا المسكونة بأحلام المهاجرين.
من يعزي اليوم صمت الأجراف في صمتها إلا غيابه الطويل الضاجّ بأسرارها. من يفك سحر الغموض عن أوشاز الأسلاف، وقد غيّب الزمن حاوي حكاياتها. ولمن ستغني الحسناوات الثلاث وكل موسيقا أروفيوس تنتحب في بكائية حلّاق الموجوع بداء الرواية والتاريخ.
ربما كان حلّاق أحد شهود الزمن العدول الذين لا يرد التاريخ شهادتهم؛ وأحد أولياء المعرفة الذين أنهكتهم رحلة البحث عن حكمة الأجداد في أديم الأرض فوجدوا ضالتهم في فضاءات أكوان خبرتها أرواحهم في حيوات أخرى.
ربما اختارته قورينا بمطلق القصد واختارها هو بمحض المصادفة؛ فكان لزاما على مدينة الماضي أن تسجل حضورها التاريخي في كيان إنساني لا يهتدي قلبه للسكينة إلا داخل مجاهلها المفتوحة ذاكرتها على مساقات الحكايات الخالدة.