شيخوخة الجسد والعقل
فرج عبدالسلام
مثل غيري، كما أخمنُ، تراودني الأسئلة المحرقة المتعلقة بقضية أن يهرم المرء، ويبلغ من الكِبر عتيا، وما يستتبعُ ذلك من تأثير على قراراته وتصرفاته، وباعتباري تجاوزتُ العقد السابع من عمري، أعتقد أنني مؤهلٌ للحديث في هذا الشأن دون التعرّض للكثير من اللوم، حيث يُفترض أنني آخر من يغمز بسوء من قناة المسنّين، لأنني في النهاية صاحب “كار” وأعرفُ “البير وغطاها” كما يذهب المثل المصري الرائع!
لستُ من العاتبين على حكيم الشعراء “ابن أبي سلمى” حين صدح بذلك البيت المشهور المنتهي عجزه بـ “ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأمِ” وإن كنت أكثرَ إعجابا وإيمانا بالبيت الذي يتحدث فيه عن المنايا، وعشوائيتها.. هذه العشوائية التي لا ترتبط بالمنايا فقط وإنما ترتبط أيضا بالتحوّلات الصحية في حياة البشر، فمشاهداتي في الحياة تبيّنُ لي صدق ما ذهب إليه! وهذا بالطبع يجرني إلى الحديث عن قصة ذلك الشيخ المناضل، من باب عقلاني بحت له علاقة بالواقع المعاش.
لأنّ الجزائر هي الجزائر الرمز عند الكثيرين، بما تمثله من ثقل تاريخي ومكانة في الوجدان العربي، ويعود ذلك إلى نضال شعبها الشجاع ضد المغتصب الفرنسي، وقد عاصرتُ في صباي ثورتها ضد الاستعمار، ورأينا ما قدمت في سبيل التحرير من ضحايا قربانا على مذبح الحرية.. وإن كنا لا نتدخلُ في شؤون الجزائريين، ونسلمّ بأنهم أدرى بشعاب وطنهم وكيفية تسييره، إلاّ أننا في الجوار لا نملك إلا أن نلاحظ ما يجري، من منظور تأثيره على مسيرة تقدم العملية الديموقراطية المتعثرة في العالم العربي، وكيف أنّ الجزائر بكل ثقلها التاريخي والثقافي تضرب المثل للداخل وللخارج في هذا الشأن البالغ الأهمية. وأقول هذا من تجربة مريرة عاناها الليبيون عندما تسلّط عليهم شخصٌ طوال أربعة عقود دمّر فيها البلد وأفسد القيم، فأفرز بالتالي كل البشاعة التي نراها الآن في المشهد الليبي.
بعد فترة من الشك والترقب لما سيقرره التحالف السياسي الحاكم في الجزائر، قطعت “جهيزة قول كل خطيب” كما يقال، وأعلن هذا التحالف، في هروبٍ سياسي واضحٍ إلى الأمام، ترشيح الرئيس المناضل (والوصف من عندهم) بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة باعتباره ضامنا للأمن والاستقرار والتنمية الشاملة. وبدون الدخول في تفاصيل الشأن الجزائري المحلي، لا نملك إلاّ أن نلحظ هذا الإصرار العجيب على التمسك بقيادة أشخاص بعينهم، رغم ما يبدو جليا من تدهور قدراتهم الجسدية، وحتى العقلية أحيانا، على القيام بالمتطلبات الخطيرة للمنصب الرئاسي، ويمكننا تخيّلُ حُرقةِ شباب الجزائر الذين يمثلون نحو خمسة وسبعين بالمائة من تعداد السكان، وهم يرون إصرار الطبقة السياسية التي تطالها اتهامات الفساد، تدافع باستماتة عن مصالحها، من خلال الإبقاء على رئيس تعدّى الثمانين، لديه إعاقة حركية، ولم يخاطب شعبه منذ إصابته بجلطة دماغية عام 2012.
الجزائر ليست فريدة في هذا العبث، فالأمثلة كثيرة في العالم النامي (المتخلف)، حيث يفضل البعضُ الموتَ رئيسا ولا يسلم السلطة لغيره… ومنذ منتصف القرن الماضي استُغفِلت الشعوب العربية من قبل أحزاب وحركات مؤدجلة، مسوّقة لديكتاتوريين، بإطلاق أوصاف “عبيطة” عليهم من قبيل القائد الرمز، والقائد الضرورة، والزعيم الأوحد، الذين لا يمكن لغيرهم قيادة البلاد. وبالتالي امتطى هؤلاء الزعماء شعوبهم فترات طويلة، ولم يكونوا في النهاية سوى وبالٍ على بلدانهم، جرّهم إلى التدمير الذاتي، والاحتراب الداخلي في أغلب الأحيان، والشواهد باقية إلى يومنا هذا. هذا يُطلِق عديد الأسئلة أهمها هل ما نشاهده في الجزائر الكبيرة اليوم هو نوع من الكوميديا السوداء التي ستكون عواقبها وخيمة وتحرم الأجيالَ الشابة من فرصة التداول السلمي على السلطة، كما تضرب مثلا سيئا لدولِ الجوار على الأقل… إنها محنةُ شيخوخة الجسد والعقل التي لا يستطيع البعض تجاوز أحكامها وتبعاتها، مع التأكيد على عدم ارتباط التقدم في السن بالحكمة كما هو شائع!