اخترنا لكحياة

“شرّير السينما” الذي “مثّل” مشهد وفاته

لفت الطفل محمود نظر أساتذته في المدرسة –التي كانت تشجع التمثيل في ذلك الوقت في عشرينيات القرن الماضي- وهم من كبار الممثلين أمثال “جورج أبيض” و “فتوح نشاطي” الذين دعوه لفرقة التمثيل

لكن أحد الفنانين وهو “عزيز عيد” كان يقسو على محمود كثيرا، فقد قال إحدى المرات في مقابلة تلفزيونية: في السنة الرابعة جاء عزيز عيد ليدربنا، جذبتني شخصيته الفذة وروعة إخراجه وتطور أفكاره، وكنت أقف بجانبه كالطفل الذي يحب دائما أن يقلد أباه

وأضاف: ولكن مع هذا لم يعطني أي دور لأمثله، وأخبرني (إنت مش ممثل، روح دوّر على شغلانة تانية) وكانت هذه العبارة مثل الخنجر الذي زرع في صدري، وجعلتني أبكي وراء شجرة في فناء المدرسة محبطا وحزينا

لكن أحد زملائه أخبره بأن الفنان عزيز عيد يقسو عليك لأنه معجب بك، وقد ردد هذا كثيرا أمامنا أنه يحترمك، ويتنبأ لك بمستقبل كبير، وأن هذه القسوة متعمدة لاختبار مدى صبرك ورغبتك في الفن

 

الموعد الأول مع السينما

 

وبالفعل، قام عيز عيد بإعطائه دورا مهما في إحدى العروض المسرحية، وقد كانت الفنانة فاطمة رشدي إحدى الحضور، فقامت بتهنئته ودعوته إلى فرقتها ليعمل معها براتب قدره 4 جنيهات مصرية، ورشّحته لبطولة فيلم سينمائي (الزواج على الطريقة الحديثة) عام 1932

إلا أن فشل الفيلم جعله يترك التمثيل فترة من الزمن، قبل أن يلتحق بفرقة رمسيس للفنان الشهير “يوسف وهبي” وعمل فيها بوظيفة ملقن للممثلين براتب 9 جنيهات مصرية

لكن مسيرته الفعلية بدأت عام 1936 عندما وقف أمام السيدة المطربة الشهيرة أم كلثوم في فيلم (وداد)، الذي جعل المخرج إبراهيم لاما يختاره لأداء دور “ورد الشرير” بفيلم (قيس وليلى) عام 1939.

ومن هنا بدأت شهرة محمود المليجي كواحد من أفضل الفنانين في مصر، حيث قدّم هو والفنان “فريد شوقي” أفضل ثنائي في السينما المصرية في ذلك الوقت، يقدر بمئات الأفلام التي أدّى فيها أدوار الشر ببراعة ساهمت في شهرته

 

شرّير السينما الطيب!

 

كان المليجي فنانا بالسليقة، فقد جسّد أدوار الشر بحرفية عالية مثل دور “متولي” في فيلم “أمير الإنتقام”، ودور “عرفان الفرارجي” في فيلم “رصيف نمرة خمسة”

لكنه أيضًا أدّى شخصية الفلاح الطيب المنكسر والمقهور بنفس القدرة والإبداع في دوره الشهير “محمد أبو سويلم” فى فيلم “الأرض” 1970 من إخراج المخرج الكبير يوسف شاهين، ليثبت كفاءته وبراعته في جميع الأدوار

وقال المخرج العالمي يوسف شاهين عنه:” المليجي أبرع ممثل رأيته يؤدي دوره بتلقائية، وأنا شخصيا أخاف من نظرته أمام الكاميرا في أدوار العنف والشر”.. وبالفعل، اختاره يوسف شاهين في كل أفلامه بعد ذلك، مثل: الاختيار، العصفور، عودة الإبن الضال، إسكندرية ليه، وحدوتة مصرية

كما مثّل المليجي العديد من الشخصيات المختلفة، مثل: اللص، العاشق، رجل المباحث، الكهل، الفلاح، الطبيب، المحامي، وأدى العديد من الأدوار الكوميدية إضافة إلى أدواره الشهيرة في الشر

ويشتهر المليجي بشخصيته الدمثة والطيبة التي يشهد لها بها كل زملائه في المشهد الفني المصري، فلطالما كان داعما ومؤازرا لأصدقائه وللفنانين الجدد، الذين هم بحاجة إلى دعم من شخصية لها وزنها مثله

 

مسيرة فنية مذهلة

 

شارك المليجي خلال نصف قرن في نحو 750 عملا فنيا بين السينما والمسرح والتلفزيون، وهو رقم مذهل يمتاز به وحده من بين الفنانين، وشارك مع الممثل الكبير فريد شوقي وحده، في 400 عمل فني! وبينها العديد من المسلسلات التلفزيونية

كما شارك المليجي في أكثر من 20 مسرحية مع فرقة “فاطمة رشدي”، وفرقة “إسماعيل ياسين”، وعمل مع فرقة “تحية كاريوكا”، وفرقة المسرح الجديد، وكانت أنجحها مسرحية “علي بك الكبير” في دور “أبو الذهب” وهي من تأليف وإخراج أمير الشعراء “أحمد شوقي”

وساهم محمود المليجي في مجال الإنتاج السينمائي بالعديد من الأفلام، لمحاربة ما سمّاها “الأفلام الهابطة” في ذلك الوقت، وقدم العديد من الوجوه الجديدة للشاشة، أشهرهم: فريد شوقي، وتوفيق الذقن، حسن يوسف، وتحية كاريوكا وغيرهم الكثير، وكان المليجي أيضًا عضوا بارزا في الرابطة القومية للتمثيل

 

حياته الشخصية وزواجه

 

ولد محمود المليجي في أقدم أحياء القاهرة الشعبية “حي المغربلين” في 22 ديسمبر عام 1910، قبل أن ينتقل رفقة أسرته إلى حي الحلمية، ويبدأ دراسته ومن ثم دخول فرقة المدرسة للتمثيل

وتزوج من رفيقة عمره الفنانة علوية جميل عام 1939، وظل مخلصا لها حتى وفاته في مثل هذا اليوم 6 يونيو عام 1983 عن عمر ناهز 72 عاما من العطاء للفن

 

البطل يموت في المعركة

 

مثلما يموت الفرسان في ساحة القتال وميدان المعركة، مات محمود المليجي أثناء تصويره لفيلم “أيوب” من بطولة الفنان العالمي “عمر الشريف”، ومشاركة العديد من الفنانين أمثال: فؤاد المهندس، مديحة يسري، مصطفى فهمي، أسامة عباس، ليلى فهمي

وكان هذا الفيلم من تأليف الكاتب المصري الشهير والحاصل على جائزة نوبل للآداب “نجيب محفوظ” ومن إخراج “هاني لاشين” الذي روى قصة وفاته المؤثرة في إحدى تصريحاته

فقال لاشين:” كان دور المليجي في ذلك المشهد، أن يقول للفنان عمر الشريف: “الحياة دى غريبة جدا، الواحد ينام ويصحى وينام ويصحى وينام ويشخر”، ثم قام بخفض رأسه كأنه نائم على الكرسي، وأصدر صوت شخير كأنه مستغرق في النوم.

وأضاف لاشين: وبينما كان الجميع في الكادر ينظر إلى الفنان بدهشة وإعجاب من روعة تمثيله، قال له عمر الشريف: “إيه يا محمود خلاص بقى اصحى، المشهد خلص”. لكن المفاجأة أن المليجي كان قد لفظ بالفعل أنفاسه الأخيرة، فمات وهو يؤدى مشهد الموت

 

مواقف المليجي مع الفنانين

 

ساهم محمود المليجي في إبراز نجوم كثيرين ذكرناهم سابقا، ولعل أبرز هؤلاء الذين ساعدهم هو الفنان المسرحي الشهير محمد صبحي، الذي نشر عبر صفحته الرسمية موقفا لا ينسى مع المليجي

فقال محمد صبحي:” في كواليس مسرحية (انتهى الدرس يا غبي) كنت وقتها عايز أضيف جملة أو أضيف إفيه يضحك بس كنت محرج جداً من الأستاذ محمود المليجى إني أزود في كلامي وهو موجود، فكنت بسكت”

وأضاف صبحي: ” لكنه مرة دخل عليا الأوضة وقاللي بعنف وبطريقته المعروفة: أنت بتكون عايز تقول حاجات وبتسكت ليه؟ كاتم اللي جوّاك ليه يا ابني؟ إحنا ماشيين، إحنا دلوقتى موجودين عشانكم، أنت اللى لازم تطلع، قول اللي في نفسك”.

وعلّق صبحي على هذا الموقف: في تلك اللحظة بكيت وحضنته، فلا يمكن أنكر أننا نتاج هذا الجيل العظيم، الذي على رأسه فنان عبقري مثل محمود المليجي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى