سلطة المعرفة وتسلط السلطان
عمر أبو القاسم الككلي
منذ زمن صار من المسلم به أن المعرفة تشكل سلطة، أي مرجعية وصلاحية authority، وليس قوة أو سلطانا power. فهي تمارس نفوذها عن طريق الحجة والإقناع،وليس بواسطة القهر والإكراه. لهذا غالبا ما تتصادم “سلطةالمعرفة” مع “قوة السلطان”. لأن المعرفة سلطة تنبع من مرجعية لا تمتلك، ولا ينبغي لها، وسائل إلزام وقهر، والسلطان يستند على أدوات القهر، والإغراء أيضا (الذي هو قهر من طبيعة أخرى) ولا يمتلك مرجعية مقنعة أو صلاحية. لا يمتلك صلاحية المعرفة، أو مشروعيتها. لذا تقمع قوة السلطان سلطة المعرفة وتعيقها، بيد أنه حين تضعف قوة السلطان ويتراخى جبروته تنتعش سلطة المعرفة.
والمعرفة ليست ساذجة أو عمياء. بل لها مخاتلاتها وحيلها،وحتى مكائدها، التي تواجه بها جلافة السلطان وفظاظته.
ولعل أطرف مثال وأوضحه، بخصوص النقطة الأخيرة، يتمثل في عمل “ألف ليلة وليلة”، وبالذات في الحكاية الإطاريةالمتمثلة في حكاية شهريار وشهرزاد.
فأمام جنون شهريار وانفلات عقال سلطانه واتخاذه قرار الزواج كل ليلة وقتل الفتاة في الصباح، كان تعقل شهرزاد وحكمتها، أي معرفتها، سلطة (ولا مانع هنا من استخدام لفظة قوة) تتصدى بنعومة وتحايل وتدبير مكيدة، لجموح وشطط سلطان شهريار. . إذ نقرأ في “ألف ليلة وليلة ” بأن شهرزاد “كانت قد أوصت أختها الصغيرة وقالت لها إذاتوجهت إلى الملك أرسل أطلبك فإذا جئت عندي ورأيت الملك قضى حاجته مني فقولي يا أخت حدثيني حديثا غريبا نقطع به السهر وأنا أحدثك حديثا يكون فيه الخلاص إنشاء الله” (1). ومن خلال عذوبة السرد وتشويقه، وما يحفل به من أخبار وحكايات وحكمة ومعرفة وثقافة، تتمكن سلطة شهرزاد، أو مرجعيتها، من ترويض سلطان شهريار وكبح جموحه.
هنا أبدى السلطان، في نهاية المطاف، تسامحا إزاء المعرفة،بل يبدو أنه اقتنع بها مضيفا سلطتها إلى جبروت سلطانه.
للمعرفة أحيانا اعتدادها بنفسها الذي قد يدخل في إقليم الاستفزاز. استفزاز السلطان، وقد يُظهر هذا الأخير تسامحا غير متوقع إزاء هذا الاستفزاز. والمثال الأبرز المتداول بهذا الشأن هو لقاء الإسكندر الأكبر والفيلسوف ديوجين الكلبي. تقول الحكاية (2) إن الأسكندر الأكبر كان مارا في موكب وشاهد شخصا يجلس في وعاء قمامة وقيل له أنه ديوجين الفيلسوف المعروف. سار الأسكندر نحوه وسأله أن يطلب منه ما يشاء. فما كان من ديوجين إلا أن أجابه: هل يمكنك الابتعاد؟!. فأنت تحجب عني الشمس!” (2). ويقال أن الأسكندر علق قائلا: “لو لم أكن الأسكندر لوددت أن أكون ديوجين”* (2).
يقول شيشرون عن هذه الحكاية: “في الواقع أراد ديوجين أن يثبت، وهو في وضعه الحياتي هذا، أنه أرفع مقاما من ملك فارس. فعلى حين أنه لم يكن محتاجا لشيء، فإن احتياجات الملك لا تحد. إنه لا يفتقد المباهج التي لا يستطيع الملك نيل كفايته منها. فالملك لا يمكنه أن يحظى بمباهج الفيلسوف” (3).
وفي رواية أخرى (2) أن الأسكندر شاهد ديوجين يفتش في كوم عظام بشرية، ولما استفسر منه الإسكندر رد عليه: “أبحثُ عن عظام والدك. إلا أنني لم أستطع تبين عظامه من عظام العبد “(2).
إذا كانت الحكايتان تنقلان واقعتين تاريخيتين فإنهما تظهران ما كان الإسكندر يتمتع به من تسامح وحلم إزاء”عجرفة” المعرفة أحيانا. وقد لا يكون هذا مستغربا منه لأن معلمه كان أرسطو الفيلسوف المعروف، الذي لا بد أنه زرع فيه حبا للفلسة وتوقيرا للفلاسفة. وإذا كانتا موضوعتين،فإنهما تظهران جرأة ديوجين وحِلم الإسكندر مثلما استقرا في المخيال الثقافي.
لكن المواجهة بين سلطة المعرفة وجبروت السلطان كثيرا ما تكون مأساوية.
يورد ألن باديو(4) حكاية عن آرخميدس عالم الرياضيات والفيزياء اليوناني الشهير، الذي ارتبط اسمه بقانون الطفو.
كان آرخميدس مستغرقا في تأمل أشكال هندسية رسمها على رمال شاطيء البحر حين جاءه جندي مبعوثا من قبل القائد الروماني مارسيلوس وأبلغه أنه يستدعيه لرؤيته. إلا أن آرخميدس لم يهتم. كرر الجندي طلبه واستمر آرخميدس في لا مبالاته. ذهل الجندي الروماني من تجاهل آرخميدس له ولأمر القائد الروماني الحاكم مارسيلوس، فصاح نافد الصبر: “القائد يريد رؤيتك!”. بالكاد رفع آرخميدس عينيه قائلا للجندي: “دعني أكمل برهاني”. فانفجر الجندي فيه: “ولكن مارسيلوس يريد رؤيتك! ما الذي يهمني من برهانك!”. لكن آرخميدس استغرق من جديد في متابعة حساباته. عند هذا الحد استل الجندي سيفه ليضرب به العالِم. يتكيء العالم آرخميدس ميتا، طامسا الشكل الهندسي على الرمال بدمه.
لم يكمل آرخميدس برهانه الرياضي. ولعل تطور علم الرياضيات افتقد، بسبب هذه الواقعة إنجازا مهما، لكنه برهن على مسألة أخرى، وهي معاداة السلطان للمعرفة.
(1) ) اعتمدنا نشرة دار صادر-بيروت المصورة عن طبعةبولاق 1252هـ.
(2) http://www.oneworlduv.com/wp-content/uploads/2011/06/diogenes_cr_10-5-09.pdf
* يصف أفلاطون ديوجين بأنه: سقراط مجنونا. http://www.iep.utm.edu/diogsino/#H2
(3) http://www.casa-kvsa.org.za/2007/AC50-04-Bosman.pdf
(4) آلان باديو & سلافوي جيجك،الفلسفة في الحاضر،تحرير: بيتر إنغلمان، ترجمة وتقديم: يزن الحاج، التنوير،بيروت، لبنان، 2013