سرب المصابيح
… والحقيقة أنني أعتمد عليهم في كل الأوقات وكل الأمزجة. في التأمل وفي السلوى. في توظيف الوقت وفي تبديد الوقت. إذا شعرت بالملل، فهم أقرب وأسهل المساعدة. إذا جفّت الأفكار والمواضيع، فهم الغيمة التي أفجرها فتهمي. أسألهم الرأي فيسرعون في التلبية. أعقّد عليهم الأسئلة، فيسهّلون عليّ الأجوبة. أطلب القليل، فيتدفقون بلا حساب.
في بهجة الصيف وغموض الخريف وحزن الشتاء وألوان الربيع، تتغير بي الأمزجة وتتبدل علي المشاعر وهم إلى جانبي لا يتبدلون. تتغير المدن والأوطان والأسفار والأسحار، فأتركهم ولا يتركونني. في صمت ورفق وطاعة ومتعة يرافقونني. لا يغيرهم طقس ولا ارتفاع ولا الرطوبة في سنغافورة.
لا شيء. صامتون رغم عبقريتهم. متواضعون رغم عظمتهم. ودعاء رغم هول معارفهم. يتغير سائر الأصدقاء، أما هم، فهم فيء الصداقة الماسية، نور في الضوء ونور في الظل. فرقة من المصابيح تقوم على خدمتي ومتعتي وتعثر لي على عمل يومي. وعندما أفكر في أجرها، أشعر بخجل عميق من نفسي.
أحياناً أضعهم أمامي صفاً صفاً. وأساررهم بكل صدق، وأقول لهم، يا أيها الصابرون والمتجلدون، كيف أكافئكم على هذا الصنيع، وأي جميل يفي جميلكم؟ ويصرفون المنّة عنهم ولا يجيبون. أحياناً، يقول أحدهم، ما معناه، خفف عنك. خفف عنك، فالصداقة قديمة والرفقة طيبة. وعالمنا ليس فيه أثمان ومكافآت. عِشرة طويلة يا رجل، فما بالك تتحدث الآن عن المبادلة؟
أصدقاء لا تخشى أنك تزعجهم في أي وقت. لا كلفة ولا مواعيد. الليل مثل النهار، والصبح مثل الغروب. وللمناسبة، فقد قال لي أحدهم أمس إن هوميروس، أبا الشعر اليوناني، كان يعتقد أن الشمس تبدأ من البحر وتسبح فيه ثم تغيب. سماهما العرب «النيِّران». الشمس والقمر، وغنوا للنيِّر الأخير لأنه يضيء ويترفق.
آه أيها الأصدقاء، يا أيها الرفاق بجميع اللغات، لو تدرون حجم أفضالكم. لو تدرون ماذا يحدث إذا غبتم ساعة واحدة. أيها الأصدقاء بجميع العقول والعلم والأدب والشعر والحكايات والمؤانسات. يا طيور الرفوف الجميلة. يا أيها النيِّر الثالث، ولو كسرنا إيقاع المثنى.
ـــــــــــــــــــ