“سجنيات” الككلي وفن إدارة الألم
سالم العوكلي
ليس هذا العمل مجموعة قصص ، ولا رواية ، ولا سيرة ، لكنه كل ذلك .. إنه حبكة القهر التي يغوص فيها، القاص عمر الككلي، في كتابه “سجنيات” الصادر عن دار الفرجاني للنشر العام 2012، بكل دربته النثرية، ليلتقط من رعيفها الملحمي مواقع الكثافة؛ كثافات الروح الدلالة والمفارقة، ولأن الحبكة كانت شديدة القسوة ، يبدو أنه كان لابد للسارد أن يبتعد عنها فترة زمنية كافية، كي يتسنى له الإصغاء من جديد لأنينها، ومن ثم التلصص “الجمالي” على أكثر الوقائع بشاعة وأثراها مرحاً في الوقت نفسه.
البشاعة والمرح ثنائية صادمة تقترحها رومانتيكية ساذجة تعمل في غير وقتها وفي غير مكانها ، وحتى لا أتورط في لعبة اختيار أسهل المداخل لمثل هذا التناول عبر صراع الثنائيات الذي يستهوي الكتابات المتحذلقة ، سأحاول أن أنقل هذا اللعب إلى حقل التضاد بين البشاعة والمرح ، تضاد شبه مستحيل لا يمكن أن يمسك بتلابيبه سوى سجين وجد نفسه فجأة في قلب العبث في مكان لا يعرف لماذا ولج إليه ولا يعرف متى سيخرج منه .
إنه بمراوغة أخرى تضاد لا يرتهن للنقائض بقدر ما يحتكم لملحمة أسطورية من التآكل المتبادل بين صلابتين، بين “المرفق وقاعدة النافذة الإسمنتية”، تواجه صامت وصبور بين اللحم والإسمنت، لكن المفارق أن اللحم الغض هو الذي سينمو بكلكله ليترك أثره حفرةً من العناد في جبروت الإسمنت الصلد، وهذا الحفر الأسطوري البطيء سوف يشكل ثيمة هذا الكتاب، حيث مقارعة القسوة بالحيل الإنسانية المنفلتة عن خفقان الأجنحة في القفص، ومواجهة القوة بإدارة العجز، والصفعةِ بالضحك، والقيظِ “بمراوح الملاءة البيضاء” ، والأهم من ذلك الحس التهكمي في أكثر حالات الإنسان قهراً، التهكم حين يكون طاقة كامنة تستثار من أجل الذود عن الروح ومجابهة تخريب الذات في مكان لا يترك لك ملاذا للهروب من القبضة المتورمة سوى “بين لسانين من اللهب”.
إن كل هذا القدر من الهواء الرمزي الذي يُنتزع عنوة من براثن الاختناق هو ما يقترحه الككلي لترميم ملحمة هامسة ضد اليأس والاستسلام، وتلك الدقة اللامتناهية في الوصف ورصد تفاصيل الواقعة تقنيات يتم توسلها لمقاومة النسيان، لاوعي الكتابة نفسها يعمل بمثابرة ضد النسيان، ووعي السارد يعمل بمثابرة على اقتناص أكثر لحظات الإيمان بالإنسان وهو يمضي قدماً، وبمعنى آخر؛ يكتب بلغة ضد النسيان مضامين تساعد على النسيان. هذا التضاد داخل تقنيات العمل هو ما يصّاعد بوتيرة النثر ويحافظ على توهجه طيلة السرد، تضاد لا يشبه إلا ذاك الصراع التراجيدي داخل السجن بين أجساد متعبة وأرواح جاسرة .. المواجهة الصامتة داخل السجن تعلن عن نفسها في مواجهة جسدية تغدو فيها الحواس إحدى أدوات الدفاع، فتحمي الروائحُ النتنة السجينَ من اقتراب الجلاد، إذ تغدو الألفة هنا ملاذاً للتعايش مع تلك الروائح، ومع الصراصير، ومع كل ما يبعد القبضات عن الوجوه. وهذا التلاغي الجسدي في وطن البشاعة مشفوع بحس رقيق من الفكاهة، لا ينفك يتسرب داخل الوقائع وداخل الكتابة، ينهال السجان القصير ضرباً على السجين العملاق مفترضا “أنه سَبّهُ في سره” .. إن الجسد الفارع يمتهن القامة القصيرة دون لغة، مثلما الجسد الذي يتحمل التعذيب بجَلَدٍ يسخر من جسد الجلاد الذي ينضح عرقاً “كان يكتم صراخه حارماً إياهم من التشفي به” .. مثلما يغمر السجينَ سرورٌ حين يرى جميع الرفاق مثله وهم يقادون مكبلين عبر الممرات شامخين “برؤوس مرفوعة فوق قامة مستقيمة تشق الفراغ في خطى راسخة” .. ومثل هذا الصراع العنيد مع ضعف الجسد في “إمهال الكرامة” … الجسد الذي يصفه السارد بـ “المادة التي يتم عليها العمل” حين يتذكر ذلك الجلاد الذي يعذب مجلوديه بـ “ضمير تكنوقراطي”، حيث يتوجه لأداء وظيفته بأخلاق مهنية عالية، دون أن يسبب أي نوع من الإيذاء المعنوي، ولذلك فإن “بعض مجلوديه كانوا يذكرونه بإكبار وعرفان”… هل ثمة صَدْعٌ تتسلل منه الفكاهة إلى علاقة بكل هذا التشوه .. هذا ما يقترحه الككلي ضمن مأزق إنساني يغدو فيه التعذيب مهنة لها أخلاقها، إذ يدير العبثُ اللعبةَ بحنكة، وإذا يضطر الإنسان لأن يفصل جسده عن المعنى، ويقدمه مادةً لتداول العنف معها، ومهنية الجلاد لا تعادلها سوى مهنية المجلود الذي يرفض أن يصرخ . كل هذا التلاغي الصامت يشكل منطقة خصبة للتداول عبر حوار أخرس بين أجساد منهكة من العذاب وأجساد منهكة من التعذيب، ويظل المرفق الغض يحفر ببطء في صلادة الإسمنت .
الجسد القاهر والجسد المقهور يلتقيان في أكثر من نقطة على محيط الزمن الدائري ، يعرقان معاً، ويتعذبان معاً، فقط من أجل فرجة الآلهة التي طالما أتقنت اللعب بعذابات الجسد الإنساني. إن عالماً بهذا الأثاث لا يمكن التغلب عليه سوى بالسخرية، وإن كانت مُرَّةً كارتشاف فنجان قهوة سادا في شرفة مطلة على مقبرة .
اللافت أيضاً أن تظل شخصية السارد غير مرئية في هذا النص، فيسيطر الآخرون على مساحة الأحداث، ووحدها تظل حواسه ساهرة في تداعي السرد ترصد ظل المرح الذي ينمو في حقول البشاعة، وأصواتِ العربات وتَدحرُجَ علبِ الصفيح في الخارج ، وشقشقةَ العصفور الخارج عن عاداته بولوجه إلى الزنزانة في عتمة ليلها، وتلك الشفقةَ المؤلمة في عيون الزوار، (أنا) شفافة أثيرية، حاضرة وغير مرئية ، تتسرب في تفاصيل الأحداث دون جسد أو ملامح ، تسلط ضوءها بقوة فتغدو الظلال قوية، وهذا التراسل بين أنا السجين وأنا المبدع إحدى تقنيات السرد التي حافظت على حرارته إلى آخر سطر .. وثمة تراسلٍ آخر جدير بالإشارة .
شاعر معتقل العقيلة رجب بوحويش، سألت عنه أبي وبعض الأقارب الذين قضوا معه سنوات المعتقل، وجميعهم لم يره أو يتعرف عليه رغم الزحام وضيق المساحة التي تواجدوا فيها .. يبدو أنه كان كائناً لا مرئياً يرتب بصمت قصيدته في الذاكرة ، التي تدين بكل ما فيها ليقظة الحواس. هل كان التخفي وسيلته لتأجيج الذاكرة ؟ ومن ثم نقل كل ذلك الألم المعزول عن العالم عبر الفن الذي كثيراً ما ينمو في أكثر الأماكن بشاعة، ليغدو الشهادة الأزلية الوحيدة على أي مكان معتم وبعيد عن ضمير العالم وعدساته . (يهدي الككلي كتابه للشاعر رجب بوحويش .. ولا تعليق) . أثناء كتابتي لهذه المقاربة عن سجنيات قبل نشرها، في أبريل 2008 ، بعثت بمسج إلى الصديق عمر الككلي أقول فيه: ” أعملُ الآن بجد على سجنيات .. أشكرك على كل هذه المتعة، وآسف لأنني استمتع هذه اللحظة بعذابكم” فرد علي فوراً: “أشكرك. ولست أدري إن كانت الكتابة عن العذاب بشكل يمتع القارئ ثأراً من العذاب أم تجميلاً له؟ قد تفتح لك هذه المسألة كوة في ما ستكتب”.
درنة ـ 14/4/2008
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ما بين علامات التنصيص يشير إلى عبارات وردت في نصوص “سجنيات” للقاص عمر الككلي.